يوم خاف الجندي الإسرائيلي عليّ وعلمني كم أنا سوداء
هنيدة غانم
حين أفيق من النوم في كسر الثانية الأول، أكون في حالة فقدان للذاكرة. أنا هنا أتنفس، وزرقة السماء في الخارج تمدني بقوة التبسم، وقلبي يصلي: أيها الرب ما أجمل عطاياك، أعطنا حبنا كفاف يومنا ونجنا من الأشرار!
لكن صوت "زامور" يخترق طبلة أذني ويقتحم خلايا دماغي... تعود الذاكرة دفعة واحدة، تعود مغبرة وصاخبة ومجنونة، تعود مجبولة برائحة البلاستيك و"الكاوشوك" المحروق.
كيف أقتلع الحاجز الذي يتربع في غرفة نومي!
أتفحص موبايلي لأعرف حال حاجز قلنديا، الطريق شبه مغلقة، إطارات مشتعلة في السادسة صباحاً... احتجاجات مستمرة منذ عدة أيام، على ما يبدو بعد قرار بالتصعيد بسبب قضية الأسرى.
الحمد لله على نعمة الموبايل على الأقل، والأهم على فتح "حاجز الجيب" للدخول إلى رام الله أمام سيارات القدس، ليس الخروج طبعا، وهل دخول رام الله كالخروج منها!
لكني وقد اتخذت قرارا استراتيجيا اليوم بتهدئة النفس المحبطة، قلت سأتبع ما ستقوله المذيعة السعيدة التي يخرج صوتها من المذياع سعيدا حنونا مبحوحا: خليكم إيجابيين.... الجمال جمال الروح... قرروا أن تكونوا سعداء، إلخ.
هل أفهم أنا أكثر من المذيعة!
قررت أن أسلك طريق الجيب (أنا ونصف أهل القدس الذين أرادوا تلافي أزمة قلنديا)
لكني قررت أيضا أن أتفاءل... كما وعدتكم سابقاً.
وكي أتفاءل لا بد أن أستغل وقتي في الأزمة التي انتقلت إلى الجيب، ألم يقل أحدهم أن الوقت من ذهب... وأنا أحب الذهب ككل بنات حواء، وأحب أن تكون أظفاري جميلة ومرتبة!
هكذا أستل مبرداً جديداً اشتريته قبل عدة أيام ويعمل بالبطاريات. بدأت أبرد أظفاري... المهم بردت سبعة أظافر وصقلت معها ثلاثين سبباً للتفاؤل غير صوت المذيعة المبحوح.
الحاجز يقف أمامي، يفتح ويغلق. تصطف السيارات ثم تنساب، هكذا دواليك.
المهم، وصلت في اللحظة التي فتح فيها الحاجز، انطلقت سعيدة مرحة، أغني مع وردة "لولا الملامة".
وإذ بصوت الجندي يصرخ: هالوووووو... ارجعي. رجعت.
الجندي الأسمر، ذو العضلات المفتولة، فلسطيني يعمل في الجيش الإسرائيلي. أسمر فخور (بعضلاته وظلالها كأغلب الذكور)، قال لي مبتسما ولكن واثقا: وين طايرة؟
ببلاهة أجبت: عالشغل.
ليش طايرة؟
مش طايرة (أنا لو كنت بقدر أطير كنت بمرق من عندك مثلا؟!)
زاد تبسماً: إنت مش أول مرة بتسوقي وإنت طايرة... أنا وقفتك قبل مرة.
آه تذكرتك، قلت له. (أنت الذي أوقفتني قبل أشهر مع جندي فلسطيني آخر. ثم أنزلتم الحاجز... أذكر جيداً، قبل أن تسألوني عن أي شيء. قلت لكم مرحبا بالعربية، فقد قرأت ما في رؤوسكم وقرأت انتماءكم للدم الفلسطيني.
الجندي مصدوماً: بتحكي عربي؟ إنت من وين؟
أنا من القدس...
اسم الله عليكي. مش مبين عليكي عربية، فكرتك أشكنازية (يهودية أوروبية) خفت عليكي.
أنا مصدومة من الجملة: تخافش خيا أنا عربية (آه والله).
كنت أريد أن أقول لك في مكان آخر ربما في الجامعة التي كان من الممكن أن نكون أنا وأنت فيها معاً: أنا شمراء.
ألا تعرف يا عزيزي أنني شقراء من الخارج فقط، في القشرة، لكني سوداء فحم من الداخل... سوداء كاملة، سوداء أفريقية، دهماء بلا آثار للبياض. أنا سوداء أحمل إرث العبيد وغضبهم..(لولا لعنة الصليبيين التي حملتها الجدات).
سوداء مثلك تماما لولا لعنة العضلات وظلالها التي حملتها أنت ورفاقك. مثلك تماما، مهما حاولت أن تبيض!
أنا سوداء... وسوادي دامس. وهذا اللون الذي يكسوني يعلمني جيداً كيف يكون السواد أبعد من اللون بكثير!
وأنت لا تخف علي. خف على نفسك! سوادك أغمق من أن تمحوه أناشيد البنادق.
باحثة ومحاضرة فلسطينية.