19 مايو 2015
الغرب ينتج "إرهابيينا" من المهاجرين
صلاح عبدالسلام، عبدالحميد أبا عوض، الأخوان بكراوي، الأخوان كواشي، وغيرهم ممن سبقوهم، وعلى الأرجح سيلحقون بهم، يجمعهم أنّهم أوروبيون، من أصولٍ عربية، وإرهابيون. ليست المشكلة في شأنهم لدى غالبية الأوروبيين في عروبتهم، بل في إسلامهم. وهي لدى غالبية العرب ليست في إسلامهم، بل في سياسات أوروبا تجاه العرب، سواء أكان ذلك في أوروبا أو خارجها. من المحقّ؟
منذ بداية تتابع الهجمات الإرهابية على أرضهم، يعتب الأوروبيون على الدول الإسلامية، لأنّها لم تنجح في توحيد خطاب عن تعاليم الإسلام، وأن يقول علماء دين إنّ هذا ليس هو الإسلام، وإنّه لا يجوز قتل الأبرياء، يظهر كلامهم هذا وكأنه وجهة نظر مقارنة مع "وجهة النظر الأخرى" التي تحلّل القتل، وذلك لغياب مؤسسة دينية توحّد التفسيرات، وتعمل على مواجهة الفكر المتطرّف.
يسارع المتطرّفون الأوروبيون إلى تحميل الإسلام بكلّ تفسيراته واجتهاداته المختلفة مسؤولية عمليات الإرهاب، متناسين أنّ الإسلام حين انتشر لم يُبد المسيحيين واليهود، على عكس ما حاول فعله الصليبيون في حملاتهم. وأمام خطابهم العنصري الذي يشكّل المادة الأدسم لوسائل الإعلام الغربية، لأنّه يثير النفوس أكثر من الخطابات العقلانية، تجد المسلم العادي في أوروبا يحس، لا شعورياً، بخطرٍ يتهدّده، وقد يلجأ إلى التسلّح خوفاً على حياته. خصوصاً وأن العمليات الإجرامية (تلك التي لا تصل إلى حدّ القتل) والإرهابية المناهضة للمسلمين تتزايد.
ثم يأتيك المفكّرون اليساريون الأوروبيون، بقيمهم الاشتراكية، ومبادئهم التي تنصّ على أن الدولة هي المسؤولة أولاً عن تصرّفات مواطنيها، وأنّ الأوروبي أوروبي مهما كانت أصوله. يحمّل هؤلاء الحكومات الأوروبية كامل المسؤولية عمّا صدر عن مرتكبي العمليات الإرهابية. لا يرون أي علاقةٍ للأصل والدين بالعملية، بل يرون أن تقصير الحكومات في إدماجهم في المجتمع السبب الرئيسي. رداءة السجون، وغياب منهاجٍ إصلاحي نفسي فيها، وغياب منظوماتٍ تدريبية لعناصر الأمن تعلّمهم سبل التعامل بطريقةٍ راقيةٍ مع المشتبه بهم والمحكومين، وغيرها من تقصيرات الدولة هي المسؤولة عن إنتاج هذا الإرهاب.
يسمع عرب كثيرون هذه التحليلات، أي تحليلات المفكرين اليساريين، فيرفعونها لتحميل الدول
الأوروبية كامل المسؤولية عن إنتاج الإرهاب، ويربطها بخطاب اليمين المتطرّف ليؤمن بمؤامرةٍ أوروبية لدفع المسلمين إلى الإرهاب، لكي يبرّر طردهم من أوروبا، فهي في نظره مجتمعاتٌ عنصرية تكره العرب. وينسى أن أغلب اليساريين يدافعون عن العرب والمهاجرين، حتى على حساب ناخبيهم. وينسى النسب الضئيلة التي يحصدها اليمين المتطرّف في الانتخابات دليلاً على عدم انتشار شعبيته، كما يُهيّأ له. وينسى التحالفات اليمينية اليسارية لمنع وصول مرشحي اليمين المتطرّف إلى سدّة الحكم في أي من الدول الأوروبية الكبرى.
لا تدافع هذه السطور عن الغرب، فأنا كاليساريين، أؤمن بتقصير الحكومات في إدارة السجون، وفي إدماج المهاجرين، وفي دورها في تهميش الضواحي الفقيرة، والتي كأي بلد في العالم غالباً ما تستقطب المهاجرين. لكن، في الوقت نفسه، أتساءل: لماذا لم يرتكب أي روماني أو برتغالي عمليةً إرهابية في الدول الأوروبية الثرية، علماً أنّ أغلبهم لا يحظون إلا بفرص عمل خدماً في المنازل أو عمالاً في مطابخ المطاعم؟ وهم يعيشون في الضواحي نفسها التي يعيش فيها العرب. لماذا لم يرتكب أي سريلانكي أو نيبالي عمليةً إرهابية في أوروبا، علماً أنّهم يواجهون مشكلةً حقيقية في تعلّم اللغة، وبالتالي في الاندماج وفي الحصول على وظائف تتعدّى عمل البناء أو الحراسة؟ وهم أيضاً يعيشون في المناطق نفسها التي تتركّز فيها غالبية الجاليات العربية.
لا لوم هنا على الإسلام، فالإسلام الحقيقي بريء من هذا التطرّف، والدليل أن من يجنّدون الشباب للعمليات الإرهابية يتفادون المسلمين الملّمين بدينهم، ولو بطريقةٍ سطحيةٍ نوعاً ما، مقارنة بالفقهاء. هم يبحثون عمّن لا يعرف من دينه إلا أنّه ولد مسلماً، وعليه الصوم والصلاة، ويكاد لا يؤدّي أياً من الفريضتين. لا بل إنّهم حتّى لا يبحثون فقط عن هذا المسلم البسيط، فهم لا يريدون المسلم المسالم. لدى أغلب من قام بالعمليات الإرهابية في أوروبا قاسمٌ مشترك، وهو سوابق إجرامية، وحياة بعيدة كل البعد عن الدين. لكن، عندما تسألهم عن دينهم يجيبون إنّهم مسلمون. كانت لدى صلاح عبد السلام حانةً، وله فيديو على "يوتيوب" في فبراير/ شباط من العام الماضي، وهو ثملٌ يرقص مع نساء في ملهى ليلي. يقول أحد معارفه إنّه كان يجلس، في حانته، يشاهد تسجيلات تنظيم الدولة، داعش، وهو يدخن الحشيش. فكيف كان الانتقال؟
من معايشتي أوساطاً في الجالية العربية في أوروبا، لمست فرقاً بين الجيل الأول من المهاجرين وأبنائهم، فذلك الجيل ما زال ممتناً لما تقدّمه له أوروبا، مقارنةً مع ما جعله يترك بلاده. لذلك هو لا يشعر بالحقد تجاه الغرب، مهما كان وضعه المعيشي. أما الأبناء فقد ولدوا في أوروبا، وفي الوقت نفسه يحرص آباؤهم على تلقينهم أنّهم ليسوا أوروبيين، وإنما عرب، وتحديداً حسب الوطن الذي ينتمون إليه. وهذا واجب أي مهاجر: أن يعزز معرفةً بالوطن الأم في نفوس أبنائه. لكن، لهذا الواجب الوطني سلبية، إذ يربى الطفل على أنّه غريب في البلد الذي وُلد فيه ويحمل جنسيته، من دون أن يفهم فعلياً ما الذي يضطره على ألا يعيش في موطنه. يعود كثيرون إلى بلادهم الأم عند إتمام الدراسة، فلا يندمجون! لأنّهم فعلياً لا يربطهم بهذا الوطن أي تاريخ مشترك. ما يربطهم به حلمٌ وصورة مجمّلة عنه، نقلها إليهم آباؤهم. ونظراً إلى عدم إمكانية الحصول على فرص عمل مبهرة في الوطن الأم تعوّض خيبة الأمل الناتجة عن اكتشاف الواقع البعيد عن الحلم، لا يرى ابن المغترب أي منفعةٍ في البقاء، فيحمل معه ما حلم به، طوال طفولته، في الحقيبة ويعود إلى أوروبا. ومع ذلك، لا يرضى أن يسمّيها الوطن، لأن ذلك سيخالف كل ما تربّى عليه منذ الصغر. وهنا، تبدأ مشكلة فقدان الانتماء إلى أي من المكانين، والشعور بالغربة في كليهما.
وبشأن الدين، يربي الجيل الأول أبناءه على أنّهم مسلمون. تماما كما يربّي المسيحي أبناءه على
أنّهم من دينه، ولا ضرر في ذل. لكن جزءاً كبيراً من هؤلاء المهاجرين هم من الأرياف أساساً، ومعرفتهم بالدين بسيطة، كأغلب أجدادنا وآبائنا من أي بقعة في العالم العربي. هي معرفة تقتصر على الشهادة، وعلى واجب الصلاة والصوم والحج، وعلى عموميات الحلال والحرام، على غرار أن الزنا وشرب الكحول وأكل لحم الخنزير حرام، والزواج واجب لإتمام الدين. بالتالي، هي معرفة سطحية، ليست كافية ليتمسّك الأبناء بهذه القناعات في مواجهة إغراءات العلاقات الجنسية خارج الزواج، ولا الكحول. وقد تكون مقاومة أكل لحم الخنزير أسهلها وأكثرها انتشاراً. لكن، في مجتمعات لا يسهل فيها الزواج مبكراً، فيما تبدو العلاقات الجنسية قبل الزواج هي العرف السائد، كيف يمكن لشابٍ عربي يعاني من ضغوط الفقر أن يقاوم ما هو متاحٌ له بسهولة، إذا كانت كل معرفته بواجب هذه المقاومة بسيطةً، وغير مبنية على شرحٍ مطوّل؟ كيف لشابٍ من الأحياء الفقيرة، ويعاني من مشكلات الدراسة، وفرص العمل الضئيلة والدخل المحدود، ألا يلجأ إلى الكحول بوازع دينٍ لا يعرف عنه الشيء كثيراً؟
تضاف إلى هذه العوامل جغرافيا وجود العرب في أوروبا. وهم لا يعيشون في مناطق للعرب وحدهم. فالحي الذي يسمّى العربي، يُطلق عليه غالباً هذا الاسم لوجود ملحمةٍ حلال فيه، ومتاجر تبضع للمأكولات العربية. لكنّه دائماً، من دون تمييز، في فرنسا وبلجيكا وألمانيا، يضمّ أتراكاً، وأفارقة وآسيويين، وأي جالية مهاجرة كبيرة. فهذه الديمغرافية تتشكّل بحكم تدنّي الإيجارات في المنطقة. وهو العامل الأول الذي يدفع أي مهاجر إلى اختيار منطقة سكنه. يليه عامل المعارف، فإذا كان يعرف قريباً له أو جاراً سابقاً، أوابن القرية نفسها لو لم يتعرّف إليه يوماً، فهو غالباً ما يفضّل التوجّه إلى تلك المنطقة عوضاً عن غيرها، وهذه طبيعة إنسانية: أن تفضّل أي شيء مألوف على الغربة المطلقة.
أمام هذه التركيبة، غالباً ما يوجد هذا العربي الأوروبي في المناطق الفقيرة. وكأي منطقة فقيرة، يكون معدّل الجريمة أكثر ارتفاعاً، وتجارة المخدرات تكون أكثر رواجاً، وبالتالي، عنف الشرطة يكون أيضاً أكثر وضوحاً. هذا العنف الذي تحوّل، على مرّ السنين، إلى ممارساتٍ شبه عنصرية من تفتيش على حسب الشكل والملامح، وعنفٍ مفرط في التعامل مع أبناء الضواحي، مقارنة مع تعامل الشرطة مع أبناء المناطق الأخرى. وهنا مسؤولية الحكومات.
ما زالت بعض الحكومات الأوروبية ترفض فكرة إجبار المهاجرين على العيش في مناطق تختارها لهم، لأن حقّ الإنسان في الهجرة يعني، أيضاً، حقّه في اختيار مكان سكنه. لكن، أليس من الضروري ربط المساعدات بفرض أماكن سكن إلزامية، لتفادي إحداث الغيتوهات، ولضمان إدماج المهاجرين في المجتمع المحلي، ولحمايتهم من الاستغلال الذي يتعرّضون له من معارفهم. ففي أحيانٍ كثيرة، يوظف الأقارب المهاجر الجديد بطريقة غير قانونية، ما يحرمه من حقوقه، وذلك لأنّهم لا يخبروه بحقوقه، ولا يشرحوها له، كي يدفعوا له أجوراً أقلّ، ويحاولون إقناعه بأن ذلك لمصلحته، لكي يحصل على مساعدات الدولة.
ما يأخذنا إلى مسؤولية الدولة في مراقبة أحقية الحصول على المساعدات بشكلٍ أوسع، إلا أن أغلب الدول الأوروبية، في حملات تقشفها على مرّ السنوات، خفّضت عدد موظفيها، وبالتالي، إرسال مفتشين على الأرض، ليراقبوا من يحصل على المساعدات التي لم تعد متاحة. عدا عن أن القوانين الأوروبية تمنعهم من إرسال تفتيشٍ مفاجئ إلى منازل المواطنين، ما يسهّل إخفاء الجنهة على من يستغّل مساعدات الدولة بشكل غير قانوني.
لكن، أمام هذه المسؤوليات، هل يحقّ فعلياً لنا، نحن العرب، أن نلوم الحكومات الأوروبية
وحدها على التقصير؟ ألسنا مذنبين نحن أيضاً؟ بأي حقّ نتحدّث عن عنصرية الأوروبيين فيما نحن نمارس عنصريتنا على بعضنا كلّ يوم؟ في كل بلدٍ عربي، حتى البلدان الأفريقية منها، تجد عنصريةً تجاه السود وهم من العرب. كما أنّنا نمارس العنصرية على بعضنا، فتجد لدينا طبقية مبنية على الجنسيات، وفي الجنسية الواحدة نمارس طبقيةً وعنصريةً مبنية على المستوى التعليمي، أو مستوى الدخل، أو نوع الوظيفة. فمن نحن أمام كل هذا لنعظ الغرب الذي يقدّم المساعدات نفسها للأوروبي الأشقر، كما للعربي الذي لم يحصل بعد الجنسية؟
ثم يأتيك من يضرب، مثلاً، بنجاح الليبرالية الأميركية في إدماج العرب، ودليله عدم تنفيذ الأميركان من العرب عملياتٍ إرهابية ونسبة التجنيد الضئيلة من الأميركيين في المجموعات الجهادية. لكن، بالنظر عملياً إلى منظومة الولايات المتّحدة، لا تجد فعلياً أنّ هناك منظومة إدماج فعلية. يعيش العرب في مناطق العرب تماماً كما في أوروبا. لكن، قد يكون الفرق غياب تاريخٍ استعماري للولايات المتحدة في دولنا. لذلك، لا يوجد موروث تاريخي من الذل والذي يولّد الرغبة في الانتقام.
هناك أيضاً المنظومة الاستخبارية. ففي أوروبا أغلب الثغرات الأمنية التي تم اكتشافها ناجمة عن احترام حقوق الإنسان. أما في الولايات المتّحدة، فالأولوية للأمن القومي على حساب أي حرية شخصية. تساءل كثيرون: كيف يمكن لأشخاصٍ ينشرون على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات لتنظيم الدولة الإسلامية أن تبقى حرة طليقة في أوروبا. والواقع أن القانون الأوروبي لا يسمح بالاعتقال بناءً على منشورات على "فيسبوك". أما في دولنا فنتفّهم أن تعتقل السلطات أحدهم بسبب رأيٍ، أو تغريدةٍ، أعواماً وربما السجن المؤبّد، لأننا تعوّدنا على هذه المنظومة. لذلك، نكاد لا نصدّق "تساهل أوروبا" مع جهادييها. ما لا نصدّقه أبداً هو الجمعيات الحقوقية التي ندّدت، غداة هجمات باريس، بإعلان حالة الطوارئ، والتي تنتقد، بشكل أسبوعي، وتوثّق عدد الاعتقالات التعسّفية. يصعب علينا أن نفهم ما يختلف عن الفكر الأميركي، وفكرنا أيضاً، في مواجهة الخطر، ويصعب علينا أن نفهم أن هناك من يبدّي حقوق الإنسان على الأمن. يصعب علينا أن نفهم، أيضاً، أن الرئيس ليس وحده السلطة الحاكمة والآمر الناهي، وأنه يخشى المحاسبة. لذلك، فهو حتى في تعامله مع حالة الطوارئ تجده يحاول، قدر المستطاع، الحدّ من الانتهاكات.
الخلاصة أنّ أوروبا مقصّرة، لكنّ العرب مقصّرون بقدرها. لا يمكننا أن نعمّم أن الغرب فشل في إدماج العرب، أو نبذهم، ولديك وزراء عرب في حكومات غربية، يمينية ويسارية، (رشيدة داتي ونجاة بلقاسم مثلين). لا يمكننا أن نحمّل الغرب كامل المسؤولية، وهو يقدّم فرصاً لعربٍ كثيرين لا يحلمون بربعها في بلادهم الأم. ولا يمكننا أن نعلّم أبناءنا أن يحبّوا وطنهم الأم على حساب نبذ وطن الاستقبال. ولا يمكننا أن نربّي أبناءنا تربيةَ دينيةً سطحية في مجتمعاتٍ يشكّل فيها دينهم أقلّية، لأننا نتركهم فريسةً للخطابات المتطرّفة، وحتى التعاليم الخارجة عن الإسلام، من دون أن نمنحهم أي وعي كافٍ لتفنيدها. والأهمّ أن الاندماج طريق باتّجاهين: إذا لم نخطُ خطوة تجاه الآخر، فكيف نريد منه أن يلاقينا في منتصف الطريق؟
منذ بداية تتابع الهجمات الإرهابية على أرضهم، يعتب الأوروبيون على الدول الإسلامية، لأنّها لم تنجح في توحيد خطاب عن تعاليم الإسلام، وأن يقول علماء دين إنّ هذا ليس هو الإسلام، وإنّه لا يجوز قتل الأبرياء، يظهر كلامهم هذا وكأنه وجهة نظر مقارنة مع "وجهة النظر الأخرى" التي تحلّل القتل، وذلك لغياب مؤسسة دينية توحّد التفسيرات، وتعمل على مواجهة الفكر المتطرّف.
يسارع المتطرّفون الأوروبيون إلى تحميل الإسلام بكلّ تفسيراته واجتهاداته المختلفة مسؤولية عمليات الإرهاب، متناسين أنّ الإسلام حين انتشر لم يُبد المسيحيين واليهود، على عكس ما حاول فعله الصليبيون في حملاتهم. وأمام خطابهم العنصري الذي يشكّل المادة الأدسم لوسائل الإعلام الغربية، لأنّه يثير النفوس أكثر من الخطابات العقلانية، تجد المسلم العادي في أوروبا يحس، لا شعورياً، بخطرٍ يتهدّده، وقد يلجأ إلى التسلّح خوفاً على حياته. خصوصاً وأن العمليات الإجرامية (تلك التي لا تصل إلى حدّ القتل) والإرهابية المناهضة للمسلمين تتزايد.
ثم يأتيك المفكّرون اليساريون الأوروبيون، بقيمهم الاشتراكية، ومبادئهم التي تنصّ على أن الدولة هي المسؤولة أولاً عن تصرّفات مواطنيها، وأنّ الأوروبي أوروبي مهما كانت أصوله. يحمّل هؤلاء الحكومات الأوروبية كامل المسؤولية عمّا صدر عن مرتكبي العمليات الإرهابية. لا يرون أي علاقةٍ للأصل والدين بالعملية، بل يرون أن تقصير الحكومات في إدماجهم في المجتمع السبب الرئيسي. رداءة السجون، وغياب منهاجٍ إصلاحي نفسي فيها، وغياب منظوماتٍ تدريبية لعناصر الأمن تعلّمهم سبل التعامل بطريقةٍ راقيةٍ مع المشتبه بهم والمحكومين، وغيرها من تقصيرات الدولة هي المسؤولة عن إنتاج هذا الإرهاب.
يسمع عرب كثيرون هذه التحليلات، أي تحليلات المفكرين اليساريين، فيرفعونها لتحميل الدول
لا تدافع هذه السطور عن الغرب، فأنا كاليساريين، أؤمن بتقصير الحكومات في إدارة السجون، وفي إدماج المهاجرين، وفي دورها في تهميش الضواحي الفقيرة، والتي كأي بلد في العالم غالباً ما تستقطب المهاجرين. لكن، في الوقت نفسه، أتساءل: لماذا لم يرتكب أي روماني أو برتغالي عمليةً إرهابية في الدول الأوروبية الثرية، علماً أنّ أغلبهم لا يحظون إلا بفرص عمل خدماً في المنازل أو عمالاً في مطابخ المطاعم؟ وهم يعيشون في الضواحي نفسها التي يعيش فيها العرب. لماذا لم يرتكب أي سريلانكي أو نيبالي عمليةً إرهابية في أوروبا، علماً أنّهم يواجهون مشكلةً حقيقية في تعلّم اللغة، وبالتالي في الاندماج وفي الحصول على وظائف تتعدّى عمل البناء أو الحراسة؟ وهم أيضاً يعيشون في المناطق نفسها التي تتركّز فيها غالبية الجاليات العربية.
لا لوم هنا على الإسلام، فالإسلام الحقيقي بريء من هذا التطرّف، والدليل أن من يجنّدون الشباب للعمليات الإرهابية يتفادون المسلمين الملّمين بدينهم، ولو بطريقةٍ سطحيةٍ نوعاً ما، مقارنة بالفقهاء. هم يبحثون عمّن لا يعرف من دينه إلا أنّه ولد مسلماً، وعليه الصوم والصلاة، ويكاد لا يؤدّي أياً من الفريضتين. لا بل إنّهم حتّى لا يبحثون فقط عن هذا المسلم البسيط، فهم لا يريدون المسلم المسالم. لدى أغلب من قام بالعمليات الإرهابية في أوروبا قاسمٌ مشترك، وهو سوابق إجرامية، وحياة بعيدة كل البعد عن الدين. لكن، عندما تسألهم عن دينهم يجيبون إنّهم مسلمون. كانت لدى صلاح عبد السلام حانةً، وله فيديو على "يوتيوب" في فبراير/ شباط من العام الماضي، وهو ثملٌ يرقص مع نساء في ملهى ليلي. يقول أحد معارفه إنّه كان يجلس، في حانته، يشاهد تسجيلات تنظيم الدولة، داعش، وهو يدخن الحشيش. فكيف كان الانتقال؟
من معايشتي أوساطاً في الجالية العربية في أوروبا، لمست فرقاً بين الجيل الأول من المهاجرين وأبنائهم، فذلك الجيل ما زال ممتناً لما تقدّمه له أوروبا، مقارنةً مع ما جعله يترك بلاده. لذلك هو لا يشعر بالحقد تجاه الغرب، مهما كان وضعه المعيشي. أما الأبناء فقد ولدوا في أوروبا، وفي الوقت نفسه يحرص آباؤهم على تلقينهم أنّهم ليسوا أوروبيين، وإنما عرب، وتحديداً حسب الوطن الذي ينتمون إليه. وهذا واجب أي مهاجر: أن يعزز معرفةً بالوطن الأم في نفوس أبنائه. لكن، لهذا الواجب الوطني سلبية، إذ يربى الطفل على أنّه غريب في البلد الذي وُلد فيه ويحمل جنسيته، من دون أن يفهم فعلياً ما الذي يضطره على ألا يعيش في موطنه. يعود كثيرون إلى بلادهم الأم عند إتمام الدراسة، فلا يندمجون! لأنّهم فعلياً لا يربطهم بهذا الوطن أي تاريخ مشترك. ما يربطهم به حلمٌ وصورة مجمّلة عنه، نقلها إليهم آباؤهم. ونظراً إلى عدم إمكانية الحصول على فرص عمل مبهرة في الوطن الأم تعوّض خيبة الأمل الناتجة عن اكتشاف الواقع البعيد عن الحلم، لا يرى ابن المغترب أي منفعةٍ في البقاء، فيحمل معه ما حلم به، طوال طفولته، في الحقيبة ويعود إلى أوروبا. ومع ذلك، لا يرضى أن يسمّيها الوطن، لأن ذلك سيخالف كل ما تربّى عليه منذ الصغر. وهنا، تبدأ مشكلة فقدان الانتماء إلى أي من المكانين، والشعور بالغربة في كليهما.
وبشأن الدين، يربي الجيل الأول أبناءه على أنّهم مسلمون. تماما كما يربّي المسيحي أبناءه على
تضاف إلى هذه العوامل جغرافيا وجود العرب في أوروبا. وهم لا يعيشون في مناطق للعرب وحدهم. فالحي الذي يسمّى العربي، يُطلق عليه غالباً هذا الاسم لوجود ملحمةٍ حلال فيه، ومتاجر تبضع للمأكولات العربية. لكنّه دائماً، من دون تمييز، في فرنسا وبلجيكا وألمانيا، يضمّ أتراكاً، وأفارقة وآسيويين، وأي جالية مهاجرة كبيرة. فهذه الديمغرافية تتشكّل بحكم تدنّي الإيجارات في المنطقة. وهو العامل الأول الذي يدفع أي مهاجر إلى اختيار منطقة سكنه. يليه عامل المعارف، فإذا كان يعرف قريباً له أو جاراً سابقاً، أوابن القرية نفسها لو لم يتعرّف إليه يوماً، فهو غالباً ما يفضّل التوجّه إلى تلك المنطقة عوضاً عن غيرها، وهذه طبيعة إنسانية: أن تفضّل أي شيء مألوف على الغربة المطلقة.
أمام هذه التركيبة، غالباً ما يوجد هذا العربي الأوروبي في المناطق الفقيرة. وكأي منطقة فقيرة، يكون معدّل الجريمة أكثر ارتفاعاً، وتجارة المخدرات تكون أكثر رواجاً، وبالتالي، عنف الشرطة يكون أيضاً أكثر وضوحاً. هذا العنف الذي تحوّل، على مرّ السنين، إلى ممارساتٍ شبه عنصرية من تفتيش على حسب الشكل والملامح، وعنفٍ مفرط في التعامل مع أبناء الضواحي، مقارنة مع تعامل الشرطة مع أبناء المناطق الأخرى. وهنا مسؤولية الحكومات.
ما زالت بعض الحكومات الأوروبية ترفض فكرة إجبار المهاجرين على العيش في مناطق تختارها لهم، لأن حقّ الإنسان في الهجرة يعني، أيضاً، حقّه في اختيار مكان سكنه. لكن، أليس من الضروري ربط المساعدات بفرض أماكن سكن إلزامية، لتفادي إحداث الغيتوهات، ولضمان إدماج المهاجرين في المجتمع المحلي، ولحمايتهم من الاستغلال الذي يتعرّضون له من معارفهم. ففي أحيانٍ كثيرة، يوظف الأقارب المهاجر الجديد بطريقة غير قانونية، ما يحرمه من حقوقه، وذلك لأنّهم لا يخبروه بحقوقه، ولا يشرحوها له، كي يدفعوا له أجوراً أقلّ، ويحاولون إقناعه بأن ذلك لمصلحته، لكي يحصل على مساعدات الدولة.
ما يأخذنا إلى مسؤولية الدولة في مراقبة أحقية الحصول على المساعدات بشكلٍ أوسع، إلا أن أغلب الدول الأوروبية، في حملات تقشفها على مرّ السنوات، خفّضت عدد موظفيها، وبالتالي، إرسال مفتشين على الأرض، ليراقبوا من يحصل على المساعدات التي لم تعد متاحة. عدا عن أن القوانين الأوروبية تمنعهم من إرسال تفتيشٍ مفاجئ إلى منازل المواطنين، ما يسهّل إخفاء الجنهة على من يستغّل مساعدات الدولة بشكل غير قانوني.
لكن، أمام هذه المسؤوليات، هل يحقّ فعلياً لنا، نحن العرب، أن نلوم الحكومات الأوروبية
ثم يأتيك من يضرب، مثلاً، بنجاح الليبرالية الأميركية في إدماج العرب، ودليله عدم تنفيذ الأميركان من العرب عملياتٍ إرهابية ونسبة التجنيد الضئيلة من الأميركيين في المجموعات الجهادية. لكن، بالنظر عملياً إلى منظومة الولايات المتّحدة، لا تجد فعلياً أنّ هناك منظومة إدماج فعلية. يعيش العرب في مناطق العرب تماماً كما في أوروبا. لكن، قد يكون الفرق غياب تاريخٍ استعماري للولايات المتحدة في دولنا. لذلك، لا يوجد موروث تاريخي من الذل والذي يولّد الرغبة في الانتقام.
هناك أيضاً المنظومة الاستخبارية. ففي أوروبا أغلب الثغرات الأمنية التي تم اكتشافها ناجمة عن احترام حقوق الإنسان. أما في الولايات المتّحدة، فالأولوية للأمن القومي على حساب أي حرية شخصية. تساءل كثيرون: كيف يمكن لأشخاصٍ ينشرون على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات لتنظيم الدولة الإسلامية أن تبقى حرة طليقة في أوروبا. والواقع أن القانون الأوروبي لا يسمح بالاعتقال بناءً على منشورات على "فيسبوك". أما في دولنا فنتفّهم أن تعتقل السلطات أحدهم بسبب رأيٍ، أو تغريدةٍ، أعواماً وربما السجن المؤبّد، لأننا تعوّدنا على هذه المنظومة. لذلك، نكاد لا نصدّق "تساهل أوروبا" مع جهادييها. ما لا نصدّقه أبداً هو الجمعيات الحقوقية التي ندّدت، غداة هجمات باريس، بإعلان حالة الطوارئ، والتي تنتقد، بشكل أسبوعي، وتوثّق عدد الاعتقالات التعسّفية. يصعب علينا أن نفهم ما يختلف عن الفكر الأميركي، وفكرنا أيضاً، في مواجهة الخطر، ويصعب علينا أن نفهم أن هناك من يبدّي حقوق الإنسان على الأمن. يصعب علينا أن نفهم، أيضاً، أن الرئيس ليس وحده السلطة الحاكمة والآمر الناهي، وأنه يخشى المحاسبة. لذلك، فهو حتى في تعامله مع حالة الطوارئ تجده يحاول، قدر المستطاع، الحدّ من الانتهاكات.
الخلاصة أنّ أوروبا مقصّرة، لكنّ العرب مقصّرون بقدرها. لا يمكننا أن نعمّم أن الغرب فشل في إدماج العرب، أو نبذهم، ولديك وزراء عرب في حكومات غربية، يمينية ويسارية، (رشيدة داتي ونجاة بلقاسم مثلين). لا يمكننا أن نحمّل الغرب كامل المسؤولية، وهو يقدّم فرصاً لعربٍ كثيرين لا يحلمون بربعها في بلادهم الأم. ولا يمكننا أن نعلّم أبناءنا أن يحبّوا وطنهم الأم على حساب نبذ وطن الاستقبال. ولا يمكننا أن نربّي أبناءنا تربيةَ دينيةً سطحية في مجتمعاتٍ يشكّل فيها دينهم أقلّية، لأننا نتركهم فريسةً للخطابات المتطرّفة، وحتى التعاليم الخارجة عن الإسلام، من دون أن نمنحهم أي وعي كافٍ لتفنيدها. والأهمّ أن الاندماج طريق باتّجاهين: إذا لم نخطُ خطوة تجاه الآخر، فكيف نريد منه أن يلاقينا في منتصف الطريق؟