في أوروبا والدول المتقدمة، لا يعتمدون على الفهلوة، ويأخذون كل الأمور بجدية، ويضعون لها القواعد، ولا يتم أي شيء إلا وفقاً للقواعد التي تم الاتفاق عليها، من أبسط الأمور، حتى أكثرها تعقيداً.
وكان من أول ما تم وضع قواعد له، العمل الصحافي، فالناس لا تتسامح مع الصحيفة أو المجلة أو وكالة الأنباء التي تنشر خبراً كاذباً بالخطأ، ناهيك عن أن يكون مفبركاً.
لهذا، تتحرى وسائل الإعلام الدقة في نشر أخبارها، وفي الحالات التي لا يكون فيها تواصل مباشر مع المسؤول، لا تكتفي وسائل الإعلام بمصدر واحد لنقل الخبر، وإنما تعمل على التأكد من المعلومة، وفي أغلب الأحوال لا يتم نشر الخبر إلا بعد سماعه من ثلاثة مصادر على الأقل، وهذا مجرد مثال على تحري الدقة في نقل الأخبار لدى وسائل الإعلام التي تلتزم الحد الأدنى من المصداقية.
وإذا انتقلت إلى أسماء مثل "أسوشييتد برس" و"رويترز" و"بلومبيرغ"، فمن النادر أن تنقل هذه الوكالات خبراً غير صحيح، أو حتى غير دقيق، كونها تتبع أعلى درجات المهنية، حتى لو كان ذلك على حساب السبق الصحافي.
الأسبوع الماضي، نقلت كل من "رويترز" و"بلومبيرغ" خبراً يكشف رفع وزارة المالية المصرية تقديراتها المبدئية لسعر صرف الدولار مقابل الجنيه في ميزانية السنة المالية الحالية 2018-2019، ليكون 18 جنيهاً بدلاً من 17.25 جنيهاً في التقدير السابق، وقالت الوكالتان إن هذا الرقم تم نقله من التقرير نصف السنوي للوزارة.
ولمن لا يعرف، فإن الموازنة العامة للدولة، التي تشمل الايرادات والمصروفات المتوقعة في السنة المالية التالية، يتم إعدادها قبل بداية تلك السنة المالية بحوالي ثلاثة أشهر، ليتم عرضها على مجلس النواب، قبل اعتمادها بصورة نهائية.
ولما كانت بعض البنود التفصيلية الواردة في الموازنة العامة تجري بعملة غير محلية، تطلب وزارة المالية من البنك المركزي إمدادها بسعر الدولار مقابل سعر صرف الجنيه السائد في الأسواق، مع توقعات البنك للسعر خلال السنة المالية القادمة، ليتم الاحتكام إليه عند تقدير حجم الاقتراض المطلوب لتحقيق التوازن (المفترض) عند إعداد الموازنة.
الخبر الذي تناقلته المواقع الإخبارية المختلفة لم يكن مفهوماً بشكلٍ كامل. فمن ناحية، لم يكن هناك أي أحداث تبرر تعديل سعر الدولار في هذا التوقيت، خاصة مع بدء تحركه، بعد شهور من الثبات، هبوطاً باتجاه السعر المقدر في الموازنة.
ومن ناحية أخرى، فإن تعديل السعر المقدر لموازنة السنة المالية (الحالية)، التي دخلنا في شهرها الثامن، ليكون 18 جنيهاً، بعد أن كان متوسطه خلال هذه الشهور الثمانية في حدود 17.80 جنيها مصرياً، يعني من الناحية الحسابية أن متوسط الأشهر الأربعة المتبقية سيكون في حدود 18.30 جنيهاً، بانخفاض أكثر من 4 في المائة عن السعر الحالي، حتى يكون المتوسط خلال السنة المالية كاملةً 18 جنيهاً، كما تتوقع وزارة المالية.
ومع التأكيد على صحة هذه النتائج من الناحية الحسابية، فلو كان ذلك ما قصدته وزارة المالية، فإنها تكون قد ارتكبت خطأً كبيراً، بإعلان تقديرها السلبي للعملة المحلية على هذا النحو، في الوقت الذي يضغط فيه البنك المركزي، بصورة واضحة، على البنوك، لدفع سعر الدولار إلى الانخفاض، الأمر الذي أدى إلى انخفاضه حوالي 40 قرشاً، تعادل أكثر من 2 في المائة، في أقل من شهر.
للوهلة الأولى، استبعدتُ أن يكون الخبر صحيحاً، وتوقعتُ أن الوزارة قصدت السنة المالية القادمة، 2019-2020، لا السنة المالية الحالية 2018-2019، خاصة أن إعداد الموازنة التالية اقترب موعده.
تواصلتُ مع ثلاثة من رؤساء البنوك المصرية، ومثلهم من مسؤولي إدارات الخزانة بالبنوك، الذين أكدوا لي جميعاً أن المقصود هو السنة المالية الحالية 2018-2019، وفي نفس الوقت أعربوا عن دهشتهم من الخبر.
ويوم الاثنين 18 فبراير/شباط 2019، وبعد ثمانية أيام من تناقل الخبر، نقلت مواقع أخبارية عدة نفي المركز الإعلامي لمجلس الوزراء، بعد تواصله مع وزارة المالية المصرية، خبر "اعتزام وزارة المالية تغيير سعر صرف الدولار، المستخدم في تقييم البنود الدولارية، في ميزانية السنة المالية الحالية، ومناشدة الوزارة لوسائل الإعلام المختلفة، ومرتادي مواقع التواصل الاجتماعي، بضرورة توخي الدقة قبل نشر مثل هذه الشائعات، التي قد تؤدي إلى بلبلة الرأي العام، وإثارة غضب المواطنين".
يصعب فهم موقف وزارة المالية، التي أدركت بلا شك حجم اللغط الذي أحدثه سعر الدولار الوارد في التقرير، كذلك يصعب فهم صمت الأيام الثمانية، ولا أشك لوهلة في مصداقية "رويترز" و"بلومبيرغ"، وعندما تذكر الوكالتان أن شيئاً ما قد جاء في تقرير الوزارة، فبالتأكيد أنهما اطلعتا على التقرير، وأغلب الظن أن لديهما نسخة مطبوعة منه، واحدة على الأقل.
الكذب والغموض أشد خطراً على الاقتصاد من إعلان الأرقام الحقيقية، حتى لو كانت سيئة، وتجاهل المواطنين لا يجدي في أغلب الأحوال، والشفافية مطلوبة في دولة تحاول نقل صورة إيجابية عن اقتصادها للعالم، من أجل اجتذاب كل ما تستطيع من استثمار أجنبي.
أما التعامل مع المواطنين كما التعامل مع "الدجاج في الحظيرة"، بإلقاء الفتات الذي يبقيهم على الحياة، مع حرمانهم من حق الفهم والاستفسار عن الأمور الغامضة، والتهرب بإنكار الحقائق، ثم مناشدة المواطنين توخي الدقة، إلى آخر ما جاء بالتقرير، فهي أمور لم تعد مقبولة بالمرة، ولا أظن أنها قابلة للاستمرار.