الفصام الأخلاقي للعالم
لا يغيب عن بالي مشهد رأيته، ذات يوم، على شاشة تلفزيون المنار اللبناني. كان احتفالاً منقولاً على الهواء مباشرة، نظمه حزب الله، بمناسبة تحجيب أربعمئة فتاة بلغن الرابعة عشرة من أعمارهن، برعاية زعيم الحزب حسن نصر الله، حين كان لا يزال يظهر علناً على جمهوره. أذكر المشهد تماما، أربعمئة طفلة محجبة يقفن كما لو كن أرتالاً عسكرية، يهتفن للحزب وزعيمه. لم يكن مشهد تحجيب الطفلات بهذه الطريقة الاستعراضية ليثير اعتراض أحدٍ من مؤيدي المقاومة والممانعة يومها، كما أنه كان مثار فخر للإسلاميين من غير الشيعة.
مشهد مشابه كنا نراه في دمشق لفتيات محجباتٍ في العمر نفسه، يتبعن نساءً أكبر منهن إلى مجالس القبيسيات ودروسهن، وقد افتتحت تلك المدارس والمجالس برعاية النظام السوري (العلماني) وحمايته. ويتكرر المشهد نفسه اليوم في كل الأماكن التي تسيطر عليها الكتائب الإسلامية المتطرفة والمعتدلة في سورية. النساء والفتيات، بمن فيهن الطفلات، مجلببات بالسواد، وإن خطر لأي ناشطةٍ سوريةٍ، أو غير سورية، الدخول إلى هذه المناطق، فيجب أن تكون محجبة. طبعاً، حيث يوجد "داعش" والكتائب المتطرفة الأخرى، الحجاب لا يكفي، إذ يمنع بأمر شرعي كشف حتى ظفر الأنثى، مهما كان سنها. لا يعترض المسلمون المؤمنون على هذا، بل يعتبرونه جزءاً من الشريعة، وبعض غير المؤمنين يبرّر ذلك بذريعة الوقت الثوري، ويزاود بعضهم، حين يتم الحديث عن اضطرار الناشطات لوضع الحجاب في هذه المناطق، بأن على من تدخل بيئة محافظة أن تلتزم بالأعراف الاجتماعية لهذه البيئة، والحجاب أحد أهمها.
لا يعترض أحد أيضاً في كل الدول العربية والإسلامية على مبدأ أن يجبر الأهل طفلاتهم على ارتداء الحجاب، وهن صغيرات في السن، من دون أن يتركوا لهن حرية التفكير والاختيار بما يرغبن، حين يصبحن ناضجات، فالحديث عن حرية اللباس هنا هو نوع من الزندقة، والاعتراض على الفعل كفر مبين، لا يعترض أحد على هذا كله. لكن، تقوم قيامة هؤلاء احتجاجاً على منع ارتداء لباس البحر (البوركيني) الذي ترتديه بعض المسلمات على الشواطئ الفرنسية، ويبدأ حديثهم عن احترام الحريات الشخصية في الملبس والمعتقد، وما إلى ذلك، غاضين النظر عن أن للمجتمع الفرنسي والأوروبي عاداته وتقاليده أيضاً، وعلى من يذهب إليه احترامها، كما يطلبون هم احترام تقاليد مجتمعاتهم وبيئاتهم.
لست بصدد الدفاع عن القرار الفرنسي منع "البوركيني" وغيره، ففي بلد علماني ويحترم حقوق الإنسان، مثل فرنسا، يبدو موقفٌ كهذا تراجعاً عن كل القيم التي بني عليها الدستور الفرنسي، وهو السبب الذي جعل فرنسيين كثيرين يعترضون على القرار، ويعتبرونه مساساً بالقيم التي تأسست عليها فرنسا الحديثة، خصوصا أن الأمر يتعلق فقط بالمسلمين المهاجرين، واللاجئين إلى أوروبا، هرباً من الحروب والموت في بلادهم، الحروب التي يطيلها المجتمع الدولي، وفرنسا ضمنه، لأسبابٍ سياسية واقتصادية.
هنا تماما تظهر حالة الفصام الأخلاقي التي تعم هذا العالم، ولعلّ في اللوحة التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، ويظهر فيها إسلاميان يجبران امرأة على ارتداء الحجاب في جهة، وجنديان فرنسيان يجبران امرأةً على خلعه في الجهة المقابلة، ما يدل على هذا الفصام، إذ لا يختلف الأمر أبدا إلا بالشكل الخارجي، بين اللباس السلفي ولباس الجند الفرنسي. الذهنية هي نفسها، الذهنية المتطرّفة، الإلغائية التي لا تتقبّل الآخر، ولا تتقبل حرية معتقده وفكره، الذهنية التي يتغذّى خيالها على مشاهد العنف والقتل والأشلاء والدم والذبح والحرق والصلب والسبي والتهجير والتشريد. هذه الذهنية الإلغائية يبدو أنها ستكون الصفة الملازمة لقرننا الحالي، إذ لا شيء يوحي بأنها ستتوقف وتتراجع، بل على العكس، تواتر العنف وانتشاره وتعميمه وتكريسه أسلوب حياة، وازدواجية المعايير حوله، يجعل من التطرّف حالة طبيعية، ويجعل من التمسك بالهويات ما قبل الإنسانية دليلاً واضحاً على حالة التراجع التي تمر بها الحضارة البشرية. أحياناً، وأنا أتابع ما يجري في العالم، أقول مع القائلين: أيها النيزك، لقد تأخرت كثيراً.