نحن لزوم ما لا يلزم

27 سبتمبر 2024
+ الخط -

هل من عاقلٍ ما زال ينتظر موقفاً داعماً للضحايا العرب من المجتمع الدولي (بما فيه العربي)، أو موقفاً يهدف إلى لجم جنون إسرائيل ومنعها من الإيغال في جرائمها المستمرّة منذ نكبة 1948؟ ... يبدو المجتمع الدولي اليوم، ومنذ ما يقارب العام، أي منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة إثر عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، التي أعطت الذريعةَ المثاليةَ لهذا العدوان ولدعم المجتمع الدولي له، يبدو كما لو أنّه يتابع لعبة "بلاي ستيشن" يُشجَّع فيها "البطل الخارق" الذي لا يستطيع الصمود أمام قوّته أحدٌ، ويُهلَّل لبطله مع كلّ ضحية تسقط، ليتراكم عدد القتلى والضحايا إلى نهاية اللعبة التي يتفوّق فيها "البطل" بجدارة.

لكن مهلاً! أليس المجتمع الدولي هو الذي يتحكّم بمفاتيح "البلاي ستيشن" الواقعية الحالية وأزرارها؟ أليس هو الذي يسيطر على مركز الوسائط وأزرار الجهاز؟ هل يُصدّق أحدٌ أنّ ما يحدث كلّه في هذه المنطقة المنكوبة هو لمُجرَّد أنّ إسرائيل قرّرت ذلك؟ ... مضى ذلك الزمن الذي كان فيه العرب يعتقدون أنّ العالم يخضع لإسرائيل، باتت هذه طُرفة من عالم قديم، الواقع أكثر رعباً من تلك النظرية في الحقيقة، الواقع يقول إنّ إسرائيل والحركات المقاومة لها تُقرّران خطواتهما بناءً على اتّفاق دولي غير مُعلَن، وإلّا لماذا تبقى هذه المنطقة المنكوبة عُرضةً دائماً لحروب غير محسوبة العواقب والنتائج، ولماذا تبقى شعوبها عُرضةً للموت المجّاني والتشرّد والنزوح واللجوء، بينما تبقى شعوب الدول التي تقود المحاورَ في منأى عن الخراب، وعن تداعيات الحروب ونتائجها الكارثية؟

أكثر من 600 ضحيةٍ مدنيةٍ لبنانيةٍ خلال يومَين فقط (لا نحسب بينهم مقاتلي حزب الله)، بينهم ما يتجاوز 50 طفلاً، وبينهم عائلات سورية لجأت إلى لبنان هرباً من حرب العقد الماضي في سورية، بينهم صبايا وشبان في أوّل أعمارهم، حركة نزوح نحو مناطق يُعتقَد أنّها آمنةٌ، وقصفٌ يطاول طريقَ الهروب، أبنية سقطت بأكملها على ساكنيها، الخوف من الحرب والموت يصبح هو السيّد في بلد لم يتمكّن بعد من نسيان هول ماضيه. ومع ذلك، يصمت الجميع تماماً ولا نسمع إدانةً واحدةً، لا دوليةً ولا عربيةً. لكن مهلا أيضاً! بدأت إسرائيل عدوانها على لبنان وهي تجرّ وراءها عربةً محمّلةً بأكثر من 40 ألف ضحيّة فلسطينية في مدينة صغيرة كغزّة، لم تحرّك ساكناً في المجتمعَين الدولي والعربي الرسمي. هل سمعتم عن دولة عربية (لا غربية) استدعت مثلاً السفير الإسرائيلي لتسجّل احتجاجها على ما يحدث؟ هل أعلنت أيّ دولة عربية منعها دخول السيّاح الإسرائيليين أراضيها حتّى تقبل حكومتهم بإيقاف عدوانها على غزّة؟ لماذا سيفعلون ذلك؟ من أجل لبنان؟ هل صدّق اللبنانيون أنهم سويسريو الشرق حقّاً، وأنّ مصيرهم يعني أحداً أكثر ممّا يعنيه مصير أهل غزّة؟

نحن شعوب هذه المنطقة المنكوبة لزوم ما لا يلزم، سقط متاع العالم، هنوده الحمر فعلاً، نحن متروكون لنتحوّل ضحايا مغامرات السياسة الدولية، متروكون لنكون وقوداً لصفقات القرون وصراعات الاقتصاد واتّفاقات السلاح النووي وأحلام الإمبراطوريات، نحن متروكون لتجارب الموت المُعمَّم والمجَّاني، حين يقرّر سادة العالم موتنا علينا أن نموت، لن يوقف هذا الموت لا الدعاء ولا الصراخ ولا البثّ المباشر للموت. لن يوقفه شيء سوى رغبة من قرّره وقرّر مصيرنا الراهن والقادم.

في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي أقرأُ لأصدقاء من لبنان: "كم نحن وحدنا". كنت قرأتها قبلاً في صفحات أصدقائنا في غزّة، كنّا كتبناها مراراً، نحن السوريين، حين كان النظام السوري وحلفاؤه (منهم حزب الله وفصائل فلسطينية حازبت النظام) يقتلون شعبنا يومياً، ويفتكون بما يخصّه. وأتصل بصديق في مدينتي الساحلية في سورية أسأله عن الانفجارات التي قرأت عنها، فيؤكّدها قائلاً "نحن شعوب تستحقّ ما يحصل لها وبها لأنّنا أذلّاء، نبيع أنفسنا لأيديولوجيات قاتلة، ونسلّم مصائرنا لخونة"، وأفكر: هل نحن هكذا فعلاً؟ هل فتّتنا بأيدينا فرصتنا النادرة للخروج ممّا نحن فيه عندما اختلفنا بشّأن "الربيع العربي" ومساراته، لاهثين وراء عقائد تحمل معها انقساماتنا وموتنا، أو أقلّه، ذلَّنا، كما قال صديقي؟ أم أنّ لعنةً ما حلّت بنا لنعيش هذه الهزائم القاتلة كلّها؟

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.