عاش البنفسج مات...

24 أكتوبر 2024

الشاعر السوري الراحل محمد عمران

+ الخط -

مرّت أمس ذكرى رحيل والدي، الشاعر السوري محمّد عمران، الذي انتقل إلى ضفّة الحياة الأخرى في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 1996، عن اثنين وستين عاماً. ولمن لا يعرف محمّد عمران فهو أحد أبرز شعراء الحداثة الشعرية العرب، ممّن أتوا بعد جيل الحداثة الأول. ينتمي شعرياً إلى مرحلة ستينيّات القرن الماضي. كتبَ قصيدةَ التفعيلة طيلة حياته، لكنّه جرّبَ في أنواع الشعر كلّها، فكانت له مجموعتان في قصيدة النثر؛ "كتاب الملاجة" و"قصيدة الطين"، وكتبَ قصائد عدّة في الشعر العمودي. ترك 13 مجموعة شعرية، صدرت الأخيرة، "مديح من أهوى"، بعد وفاته، وكتابين نثريين في الشعر والحُبّ والحرب والحياة.

لا أتحدّث كثيراً عن والدي في مقالاتي، أو في الحوارات التي أُجريت معي، ليس لأنّني غير مهتمّة، بل ربّما لفرط اهتمامي وحبّي له ولشعره. تقول أدبيات العرب "كلّ فتاة بأبيها معجبة"، وأنا كنت أكثر من معجبة به، ليس والداً قلَّ مثيله في طباعه، بل شاعراً أولاً. وربّما هذا الإعجاب والتعلّق هما ما جعلاني أتوارى عن الظهور في حياته، وجعلاني أُؤجّل موضوع نشر ما أكتب (أو التصريح) عنه إلى ما بعد وفاته، خشية ألّا ينال ما أكتبه رضاه، وخشية المقارنة به من أحد ما، وأنا كنت أعرف جيّداً (ومازلت) أن أيَّ مقارنةٍ لن تكون في صالحي ولا في صالح ما أكتب.

رحل والدي من دون أن يعرف أنّني أكتب الشعر، ومن دون أن يقرأ لي حرفاً واحداً. أنا الآن نادمة جدّاً على ذلك. بالنسبة إلي شاعرةً، حين أريد الحديث عن تجربة محمّد عمران الشعرية، فإنّ مزاجي الشعري يتّجه مباشرة نحو كتبه الثلاثة الأخيرة: "نشيد البنفسج" و"كتاب المائدة" و"مديح من أهوى". هي المفضلّة عندي، أشعر أنّه تخفَّف فيها من الأيديولوجيا، التي ميّزت شعراء الستينيّات، وتخفَّف من الرمزية لصالح جوهر اللغة وانسيالها. لغته الشعرية في أواخر حياته كانت كما لو أنّها نسغ ممتلئ بالرطوبة التي تمدّ نبتة الشعر بالحياة. لغته مائيةٌ، كما قال هو عنها في مقال نشر في مجلة العربي الكويتية، تحت عنوان "بوح الشعر": "كلما أحسست جفافاً عدت إلى النبع، هناك تنتظرني لغتي، في الريحان والدفلى، في الحشائش وفي بياض الحصى، ينتظرني الماء الذي سيجري في لغتي". هذا الماء هو ما جعله يصل في الكتب الأخيرة إلى الشعر المصفّى، الشعر لأجل الشعر فقط، لأجل جوهر وكينونة الشعر. فيها أيضاً تخلّى عن نخبوية شعراء الستينيّات التي شكّلها فرط استخدام الرمز، وتحوّل شاعراً فقط، وأكاد أجزم أنّ هذا كان أكثر ما يحلم به؛ أن يكون شاعراً من دون ألقاب أخرى، من دون أن يُحسَب على مدرسة ما أو اتجاه ما، أن يكون شاعراً حرّاً "لا سلطة عليّ سوى سلطة الشعر. أنا حرّ بمعنى أنّني لا أنتمي إلي مذهب أدبي أو فنّي أو أيديولوجي، أنا أنتمي إلى مذاهب الفنّ كلّها"، كما قال في المقال ذاته، الذي ليس بالصدفة، ربّما، أن يكون هو آخر مقال كتبه في حياته، كثّف فيه تجربته الشعرية والحياتية والثقافية. وربّما سأكتب في مقالات قادمة عن الرؤية والاستشراف الذي كان لديه في قصائده لما سيحدث في سورية، وفي الوطن العربي. إذ ثمّة نبوءة في قصائد ديوانه "أنا الذي رأيت"، تجعل من تلك القصائد تبدو راهنةً، كما لو أنه كان يرى فعلاً الهول الذي عاشت فيه سورية ما يزيد على عقد من الزمن، والموت الذي ينتقل من مكان إلى آخر في عاملنا العربي.

هل الشاعر نبيٌّ أو متنبّئٌ أو رائي؟ ... هذا سؤال الشعر الأبدي، منذ أرسطو وحتّى الآن، سؤال لم يستطع شكل القصيدة وتطوّر الشعر واختلافه عبر الزمن أن يلغيه أو ينحّيه جانباً. تبقى باصرة الشاعر وبصيرة الشعر هي ما يميّز شاعراً من آخر، ويمايز قصيدةً من أخرى. الباصرة والحدس اللذان يجعلان الشاعر يرى ما لا يراه غير الشاعر: "من لم يمت بالسيف مات على الرصيف/ برصاصة، أو مات في إبط الرغيف/ أو مات في الإنقاض، أو تحت السياط/ أو مات تحت الأحذية/ عاش القرنفل مات/ الموت مفتوح الجهات".

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.