"لشو التغيير"
لا يمكن التيقّن ما إذا كانت مسألة بقاء النظام السوري مسألة ترتيب دولي سياسي أم هي مسألة حظّ وتدابير من القدر، ذلك أن الأخير لا يبدو متحالفاً مع الشعب السوري، بل في الحقيقة تبدو الأقدار وتراتيب السماء والآلهة كلّها مضادّة لرغبة السوريين ولآمالهم وتطلعاتهم. لا يغرّنكم ما ترونه منهم الآن، فهذه التحزّبات والخلافات والانقسامات كلّها، وهذا التهليل للموت، ليست سوى ردَّات فعل على الخيبة والخذلان واليأس والشعور المرير بهزيمة وطن، بحاضره ومستقبله، تنعكس شعوراً أشدّ مرارةً بهزائم شخصية وفردية، تؤدّي إلى سلوكاتٍ غير محسوبة، وتخبط في المشاعر، ومبالغات متطرّفة في الفرح والحزن والشماتة والخوف واللامبالاة.
التطوّرات الأمنية الخطيرة التي تحدُث في منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً في بلاد الشام، تظهر كما لو أنها تتّجه مباشرة لتكون في صالح النظام السوري، أو لتثبيت وضعه من دون أي تغيير يذكر، ذلك أن جيش العدوّ الإسرائيلي يبدي من الودّ والتعاطف معه ما يجعل التساؤلات مشروعةً ومحقةً. فجيش الاحتلال الذي لم تتوقّف طلعاته الجوية وغاراته ضدّ أهداف عسكرية تابعة لإيران وحلفائها في سورية منذ سنوات، صواريخه لا تخطئ الهدف أبداً، ولا تنحرف قيد أنملة لتسقط قريباً من قصر المهاجرين، حتى لو كان ذلك من أجل ذرّ الرماد في عيون أمثالي من المقتنعين بأن نظام الأسد ما كان ليبقى ساعة واحدة لولا الموافقة الإسرائيلية على بقائه. لكن لا يبدو أن الطرفَين معنيان بقناعاتي أو شكوكي، وغيري في هذا الأمر. تستهدف إسرائيل يومياً تقريباً مواقع في سورية والنظام السوري لا يُظهِر أيّ اعتراض، لا عسكري ولا سياسي، وكأنّ لا شيء يحدُث، أو كأنّ ستارةً سميكةً نزلت على أعين النظام السوري "فأغشيناهم فهم لا يبصرون".
يمكننا أن نقول إذاً إن الحرب التي تشنها إسرائيل على حلفاء إيران في فلسطين ولبنان وسورية تريح بشّار الأسد إلى حدّ ما، فهي تخفّف عنه التدخّل الإيراني في شؤونه الداخلية والخارجية، وتريحه من اتّهامات تجارة (وتهريب) الكبتاغون، التي يتزعّمها شقيقه ماهر الأسد، بوصفه رجل حزب الله وإيران الأول في سورية؛ هي أيضا تحميه من طموح الأخير في الحكم على غرار عمّه سيئ الذكر رفعت الأسد. تساعده هذه الحرب على التخلّص من المليشيات المسلّحة السورية التي شكّلها حزب الله خلال العقد الماضي، التي بدأت تشكّل خطراً كبيراً على دوائره، لأنها تحترف التشبيح والقتل والخطف، ولا سيطرة لأيّ جهة أمنية سورية عليها، وكان يمكن أن تتحوّل دويلةً مسلّحةً داخل مناطق نفوذه. الحرب أيضاً خلّصته من عبء دعم المقاومة، سواء مادياً أو معنوياً، هذا العبء القديم الذي لطالما استثمر فيه نظام الأسد قديماً وحديثاً، وبات الآن يشكل عبئاً ثقيلاً عليه أمام إعادة تدويره في المجتمعَين العربي والدولي.
هل هذا فائض حظّ يمتلكه النظام السوري ويهرب من السوريين، أم هي ترتيبات السياسة الدولية التي لا تهتم بمصائر الشعوب ولا بتطلعاتها، ولا تعنيها الأعداد المهولة من الضحايا المدنيين الذين يسقطون يومياً ثمناً لتلك السياسات والتحالفات التي لا تمتّ لا للأخلاق ولا للإنسانية بأيّ صلة؟ والسؤال الآخر الأكثر أهمّيةً: هل ما يحصل يمكنه أن يُحدِث أيّ انفراجة في الملفّات السورية المقفولة؟ ... في ظنّي أن الإجابة ستكون بالنفي حتماً، ذلك أن أيّ تغيير في البنية القديمة (المستمرّة) لتركيبة النظام سوف تؤدّي إلى نهايته، فهو قائم على بنيان متكامل سيسقط إذا تخلخل حجر واحد منه، وهو يعرف ذلك جيّداً، لهذا رفض مناشدات التغيير كلّها، ولو قليلا في بنيته خلال العقد الماضي. هذا نظام قائم على أسس رُسِمت له كما هو، يخشى من أي تغيير سوف يؤدّي إلى خلخلته، هو يضحّي ببيادق لا تؤثّر في بنيانه الرئيس، يضحّي بأيّ شيء أو شخص لا تتطلّب التضحية به تغييراً ما.
ذات يوم أنشأ أحد الأصدقاء مقهىً صغيراً في طرطوس، وأطلق عليه اسم "لشو التغيير"، تيمّنا باسم أغنية للفنان اللبناني شربل روحانا. منع الأمن صديقي من افتتاح المقهى حتى يقوم بتغيير الاسم. هذا نظام يخشى من المفردة نفسها: "التغيير" حتى لو كانت بالنفي، كما تقول الأغنية، وكل ما يحدث حوله يثبّته كما هو عليه.