لا يمكن إنكار أن التخريب مستوى متقدم من الفعل المادي. والتخريب بعد تخليص المفردة من إيحاءاتها السلبية الرائجة، يبدو فعلاً انفعالياً، يعيد تشكيل مشهد ما، هو بالدرجة الأولى حيّز مادي.
لماذا يمرّ تدمير مساكن قديمة أو أحياء فقيرة أو حيز مكاني بأكمله، من قبل شركات وجهات ذات صلة بالدولة والنظام كأنه أمر عادي، بل ومطلوب، في حين تعتبر جنحةً أو جنايةً الكتابة على الجدران ورسم "الغرافيتي"!
ماذا يريد المخرب الفرد أن يقول؟ لماذا يخرب واجهة عامة، مقاعد في المترو، إنارة شوارع؟ ألا يوحي الأمر بالعلاقة المضطربة مع الحيز المادي مما يدفع إلى التخريب؟ ولماذا ينشط في هذا الجانب الشبان والمراهقون؟ أليس التفكير بفعائل أجهزة الدولة بالفضاءات العامة يجعل السؤال عمن هو المخرِّب ضرورياً؟
دأبت النظم الحاكمة في منطقتنا على تكريس ملكيتها للحيز العام والفضاءات العامة، فالفضاء ملك الدولة وهي رهينة في يد النظام، والنظام يحرم مواطنيه من إقامة علاقة سليمة مع الحيز العام. ومع تملك النظام للحيز العام وفرض رؤيته وتصوره عليه يبدأ الوعي بمنازعة النظام ملكيته لهذا الحيز، انطلاقاً من القناعة بأن التخريب يمسّ النظام في ما يملك أول الأمر، ثم تتطور القناعة للتعامل مع التخريب كإثبات ملكية وساحة صراع.
وحين يجهد النظام في تشكيل الفضاء العام على شاكلة تشبهه وتعبر عنه، ويتم ذلك فيزيائياً واسميّاً، ويشمل ذلك ملء الميادين والمرافق العامة بتماثيل السلالة الحاكمة وشعاراتها واحتكار تسمية الفضاءات العامة بمفردات أيديولوجيا النظام ورموزه؛ يبدو بوضوح أن التخريب في جوهره هو رفض للنظام، بل رفض لكل ما يمت له بصلة.
في حالات كثيرة وضمن الفئات العمرية الدنيا يبدو التخريب احتجاجاً عاماً، على النظام الاجتماعي، وعلى السلطة بكل معانيها، وفي حالة عربية يحكم الالتباس علاقة الناس بكل ما يمت للنظام والدولة.
تبدو الظاهرة متوقعة، بل وتعبيراً عن مسار رفض آخذ بالتشكل، أو يبحث لنفسه عن أشكال حضور وفعل. ومع كل هذا تأتي المغالطات التي تحاول تناول الأمر على مستوى فردي منعزل، وكأنه سلوك فئة شاذة غريبة تعاني مرضاً ما.
قبيل اندلاع الثورة المصرية انتشرت مقاطع فيديو لحالات تحرش جماعي، وقيل عن الظاهرة الكثير، إلا أن مناقشتها على مستوى التخريب المادي والمعنوي ضمن الفضاءات العامة لم تتم. كانت الحالة فريدة إلى درجة أغفلت النظر عن العلاقة المشوهة مع الحيز العام المسلوب من قبل الدولة وسلوك الأفراد فيه. ويمكن القول إن حالات الانفجار العامة تلك قد تحدث في مواقع ومساحات غير متوقعة، قد يكون الجسد إحداها. وهذا يدعو للتعامل مع الحيز العام لا كفضاء مادي وحسب، بل كفضاء جامع للمادي والمعنوي، حافل بالذوات الاجتماعية وبأفعالها واضطراباتها.
قد يبدو ملتبساً التفكير في العلاقة بين الشبان والمراهقين والفضاءات العامة حين يدكّ النظام السوري المدن والقرى والطرقات بالبراميل المتفجرة، وتفجر داعش الكنائس والمساجد وتصبغ كل شيء بسوادها، ويجرّف الجيش المصري شريطاً حدودياً كاملاً بحجره وشجره ويحشد آلياته في الجامعات، وينهب الرصاص الشوارع في طرابلس ويغدو متسيدها الوحيد.
إلا أن الالتباس هو مدخل الحديث دوماً، عن الصراع على الفضاء العام وفيه، وعن علاقة الإبعاد والإزاحة التي يعيشها أي عربي عن فضاءاته العامة. وقد تكون المقولة على بساطتها مفسرة شارحة، هنالك صراع بين الدولة والنظام من جهة والناس من جهة أخرى، صراع امتلاك للفضاءات العامة، قد يتجلى بغرافيتي على حائط، وقد يصل إلى تفجير انتحاري، لا يرى منفذه في السوق أو الميدان أو المحطة إلا مساحة اغترب فيها وسلبت منه.