لست من الذين يحنون للماضي، للـ"سكستينز" و"السيفنتينز"، وما قبلهما، لدعوات سارتر للحرية ولنغمات بوريس فيان وماريام ماكيبا وبوب ديلان ولأيّار1968، وللهيبيز متجولين شبه عرايا في مدينة الصويرة أو القاهرة. ولا إلى الزمن الذي كانت فيه مدارس الفنون الجميلة تستعمل الموديلات الحية أنثوية وذكورية ليتعلّم طلاب الفنون رسم الجسد. لكن أحيانًا ينتابنا هذا الحنين حين تتعرّض أعمال فنية للتحطيم أو المنع. فنحن جيل عاش المنع والحظر بجميع أشكاله، والقمع والتقتيل من أجل الأفكار وحدها بشكل بشع تشهد عليه المذكرات وعدد الشهداء. في الماضي كانت حرية الفنّ ذات طابع وبعدٍ سياسيين، وها هي تصير اليوم كذلك، بعد عقود قليلة من الانفراج، لكن هذه المرة ببعد تاريخي أيضًا.
فبعد الثورات المهزومة في ربيعٍ لم يزهر، وبعد أن ذاق الإسلاميون طعم السلطة، صاروا هم وأتباعهم الدعويين، في تونس كما في مصر والمغرب، يمنعون هذا المعرض أو ذاك، وهذه المجلة أو تلك، أو هذا الفيلم أو ذاك، كما تنبئ بذلك الضجة التي تثار حاليًا حول فيلم نبيل عيوش الأخير "الزين اللي فيك" الذي عُرض على هامش مهرجان كان الأخير. كلّ ذلك باسم الفنّ النظيف.
ليست قضية هذا الفيلم مرتبطة بالسينما فقط، ولا بالفنّ عمومًا، بل هي مسألة تهمّ مستقبل الفنون في بلداننا العربية والسياسة الثقافية فيها.
اقرأ أيضاً: الجيلالي الغرباوي المنبوذ عائدًا إلى الواجهة
من سنوات فقط بدأ في بعض البلدان العربية تداول مقولة غريبة تبدو وكأنها خارجة لتوّها من آلة تصبين فائقة الجودة. الأمر يتعلق بمقولة "الفنّ النظيف". وهي في الحقيقة ليست بمقولة أو مفهوم، يمكننا تحديده نظريًا وفقًا لفرضيات وتحاليل فلسفية أو اجتماعية أو أنثربولوجية أو جمالية، بل هي بالأحرى شعار سياسي يستهدف إلباس البرقع والحجاب لفنّ مبني على الرؤية والظهور والإظهار.
وحين تسرّبت لليوتوب مقاطع جريئة من الفيلم، ثارت ضجة وصلت أصداؤها عبر الشبكات الاجتماعية إلى العديد من البلدان العربية الأخرى. وصار الجمهور الشعبوي والطهراني، يظهر الشيزوفرينيا، وهويته الضيقة وأخلاقه الرفيعة التي لا تميّز بين الواقعي وبين الواقع ولا بين المتخيّل الفنّي والمعيش.
كتب صديقي، الروائي والفنان التشكيلي ماحي بينبين، عن الإرهاب: "إلى متى سنظلّ نعيش في الشيزوفرينيا وفي الإنكار؟ هل صورتنا هي التي تُقرفنا إلى هذا الحدّ أم أن موطن الداء أعمق من ذلك؟ هل سنظلّ نرجم الفنانين الذين يداوون جراح مجتمع عليل، ونقوم بالدسائس ضدّ الموهبة، هذه الثروة الوطنية التي تعتبر سبيل نجاتنا، وضدّ الحرية التي لأجلها أدى أسلافنا الثمن بدمائهم في زنازين العار؟ هل علينا نحن المبدعين أن نشتغل وفوق رؤوسنا دومًا سيف ديمقليطس؟
لم تكن تهمني الكتابة في هذا الشأن، لو أني لم أعرف المخرج منذ فيلمه الأوّل، ولو أن أفلامه في غالبها ذات بعد جمالي وعالمي واضح، ولو أني لم أكتب عن أفلامه من زمن، بل لو أني لم أكن من ضمن كتّاب عالميين، كالطاهر بن جلون ولوكلزيو الحائز على نوبل، كتبوا عن صوره الفوتوغرافية الرائعة التي عرضها أخيرًا، وكشفت عن فنّان ذي عين بصيرة.
اقرأ أيضاً: المواطنة والحقّ في الفنّ
أتذكر اليوم مجموعة "الفنّ والحرية" التي كانت تسعى إلى تحرير التناول التشكيلي من براثن الواقعية. كان رهان الخيال والتخييل رهانًا تاريخيًا حينها، للالتحاق بفورة التجارب العالمية التي كانت تسعى للانفلات من إسار النموذج المحاكاتي. وبعد أن استوى الفنّ العربي (شعرًا وسينما وتشكيلًا) في هذا الانزياح عن المرجعية الواقعية وهو يسائلها بلا كلل وبلا ملل، لاحظنا عودة الواقعية والواقعية الفائقة (hyperrealism)، التي جاءت تعبيرًا عن واقعية مجهرية، كان لعجلة الفنّان الفرنسي مارسيل دوشان ومبولته دور كبير في إرسائها.
نعيب على نبيل عيوش، الفوتوغرافي والسينمائي، أن يطلّ من ثقب كبير ليتابع حياة المومسات بوقاحة عين الكاميرا وأذنها. أكان شريطه سيكون فنيًا، لو أنّه حوّلهن إلى ملائكة تتكلم بأخلاق الفقهاء؟ أتذكر أني قلت مرة لمحمّد شكري: لماذا يركز القرّاء على "الخبز الحافي"، ولا يشيرون أبداً لقصتك الرائعة "الفردوس الصغير"؟ إنها قصّة تبيّن أن شكري أكثر الكتّاب العرب طهرانية، لأنه يحوّل المومس إلى امرأة طاهرة، فتنتهي القصّة بطرد البطل والمومس من "الفردوس الصغير" (الحانة)، لأنهما يقعان في الحبّ ولا يمارسان المجون.
ما لا يدركه الكثيرون من المتابعين والمتلقين للفنّ العربي، هو أن التحوّلات الجمالية والتأويلية التي يعيشها هذا الفنّ، تسير به في طرائق جديدة تهدف إلى تجاوز المجازية التقليدية، وصار الفنّ المعاصر (سواء في الفنون البصرية أو السينما)، يخترق الحدود التي رسمها مفهوم الفنون الجميلة التقليدي، لأن البشاعة صارت قيمة فنية، وصدم المتفرج بالمشاهد اللامحتملة إحدى طرائق الفنّ لتحريك وعيه.
كتب جاك رانسيير في هذا السياق: "ما الذي يجعل من صورة ما صورة لا تطاق؟ يبدو أن السؤال بدءًا، يتمّ عن الملامح التي تجعلنا عاجزين عن النظر إلى صورة من غير الإحساس بالألم أو الاستنكار. لكن ثمة سؤال ثان يظهر للتوّ: هل هو أمر مقبول صنْع صور من قبيل تلك وعرضها على أنظار الآخرين؟، لا أدل على ذلك من الصورة المستفزة للمصور أوليفييرو توسكاني Oliviero Toscani، التي حوّلها إلى ملصق تظهر فيه امرأة بالغة الهزال (قهْمية)، عارية وبادية العظام، علِّق في كافة المدن الإيطالية خلال أسبوع الموضة بميلانو سنة 2007.
كانت البشاعة القصوى، طريقةً لنقد استغلال الجسد الأنثوي في إشهار الموضة بطريقة تحوّله إلى أقنوم. إنها طريقة جديدة لكشف النقاب عن الواقع الصارخ. قد تخدش "حياء" الجمهور، غير أنها تظل قيمة قصوى لنقد أحوالنا، ففي الدين كما في الفن، ليس ثمة من حياء!
فبعد الثورات المهزومة في ربيعٍ لم يزهر، وبعد أن ذاق الإسلاميون طعم السلطة، صاروا هم وأتباعهم الدعويين، في تونس كما في مصر والمغرب، يمنعون هذا المعرض أو ذاك، وهذه المجلة أو تلك، أو هذا الفيلم أو ذاك، كما تنبئ بذلك الضجة التي تثار حاليًا حول فيلم نبيل عيوش الأخير "الزين اللي فيك" الذي عُرض على هامش مهرجان كان الأخير. كلّ ذلك باسم الفنّ النظيف.
ليست قضية هذا الفيلم مرتبطة بالسينما فقط، ولا بالفنّ عمومًا، بل هي مسألة تهمّ مستقبل الفنون في بلداننا العربية والسياسة الثقافية فيها.
اقرأ أيضاً: الجيلالي الغرباوي المنبوذ عائدًا إلى الواجهة
من سنوات فقط بدأ في بعض البلدان العربية تداول مقولة غريبة تبدو وكأنها خارجة لتوّها من آلة تصبين فائقة الجودة. الأمر يتعلق بمقولة "الفنّ النظيف". وهي في الحقيقة ليست بمقولة أو مفهوم، يمكننا تحديده نظريًا وفقًا لفرضيات وتحاليل فلسفية أو اجتماعية أو أنثربولوجية أو جمالية، بل هي بالأحرى شعار سياسي يستهدف إلباس البرقع والحجاب لفنّ مبني على الرؤية والظهور والإظهار.
وحين تسرّبت لليوتوب مقاطع جريئة من الفيلم، ثارت ضجة وصلت أصداؤها عبر الشبكات الاجتماعية إلى العديد من البلدان العربية الأخرى. وصار الجمهور الشعبوي والطهراني، يظهر الشيزوفرينيا، وهويته الضيقة وأخلاقه الرفيعة التي لا تميّز بين الواقعي وبين الواقع ولا بين المتخيّل الفنّي والمعيش.
كتب صديقي، الروائي والفنان التشكيلي ماحي بينبين، عن الإرهاب: "إلى متى سنظلّ نعيش في الشيزوفرينيا وفي الإنكار؟ هل صورتنا هي التي تُقرفنا إلى هذا الحدّ أم أن موطن الداء أعمق من ذلك؟ هل سنظلّ نرجم الفنانين الذين يداوون جراح مجتمع عليل، ونقوم بالدسائس ضدّ الموهبة، هذه الثروة الوطنية التي تعتبر سبيل نجاتنا، وضدّ الحرية التي لأجلها أدى أسلافنا الثمن بدمائهم في زنازين العار؟ هل علينا نحن المبدعين أن نشتغل وفوق رؤوسنا دومًا سيف ديمقليطس؟
لم تكن تهمني الكتابة في هذا الشأن، لو أني لم أعرف المخرج منذ فيلمه الأوّل، ولو أن أفلامه في غالبها ذات بعد جمالي وعالمي واضح، ولو أني لم أكتب عن أفلامه من زمن، بل لو أني لم أكن من ضمن كتّاب عالميين، كالطاهر بن جلون ولوكلزيو الحائز على نوبل، كتبوا عن صوره الفوتوغرافية الرائعة التي عرضها أخيرًا، وكشفت عن فنّان ذي عين بصيرة.
اقرأ أيضاً: المواطنة والحقّ في الفنّ
أتذكر اليوم مجموعة "الفنّ والحرية" التي كانت تسعى إلى تحرير التناول التشكيلي من براثن الواقعية. كان رهان الخيال والتخييل رهانًا تاريخيًا حينها، للالتحاق بفورة التجارب العالمية التي كانت تسعى للانفلات من إسار النموذج المحاكاتي. وبعد أن استوى الفنّ العربي (شعرًا وسينما وتشكيلًا) في هذا الانزياح عن المرجعية الواقعية وهو يسائلها بلا كلل وبلا ملل، لاحظنا عودة الواقعية والواقعية الفائقة (hyperrealism)، التي جاءت تعبيرًا عن واقعية مجهرية، كان لعجلة الفنّان الفرنسي مارسيل دوشان ومبولته دور كبير في إرسائها.
نعيب على نبيل عيوش، الفوتوغرافي والسينمائي، أن يطلّ من ثقب كبير ليتابع حياة المومسات بوقاحة عين الكاميرا وأذنها. أكان شريطه سيكون فنيًا، لو أنّه حوّلهن إلى ملائكة تتكلم بأخلاق الفقهاء؟ أتذكر أني قلت مرة لمحمّد شكري: لماذا يركز القرّاء على "الخبز الحافي"، ولا يشيرون أبداً لقصتك الرائعة "الفردوس الصغير"؟ إنها قصّة تبيّن أن شكري أكثر الكتّاب العرب طهرانية، لأنه يحوّل المومس إلى امرأة طاهرة، فتنتهي القصّة بطرد البطل والمومس من "الفردوس الصغير" (الحانة)، لأنهما يقعان في الحبّ ولا يمارسان المجون.
ما لا يدركه الكثيرون من المتابعين والمتلقين للفنّ العربي، هو أن التحوّلات الجمالية والتأويلية التي يعيشها هذا الفنّ، تسير به في طرائق جديدة تهدف إلى تجاوز المجازية التقليدية، وصار الفنّ المعاصر (سواء في الفنون البصرية أو السينما)، يخترق الحدود التي رسمها مفهوم الفنون الجميلة التقليدي، لأن البشاعة صارت قيمة فنية، وصدم المتفرج بالمشاهد اللامحتملة إحدى طرائق الفنّ لتحريك وعيه.
كتب جاك رانسيير في هذا السياق: "ما الذي يجعل من صورة ما صورة لا تطاق؟ يبدو أن السؤال بدءًا، يتمّ عن الملامح التي تجعلنا عاجزين عن النظر إلى صورة من غير الإحساس بالألم أو الاستنكار. لكن ثمة سؤال ثان يظهر للتوّ: هل هو أمر مقبول صنْع صور من قبيل تلك وعرضها على أنظار الآخرين؟، لا أدل على ذلك من الصورة المستفزة للمصور أوليفييرو توسكاني Oliviero Toscani، التي حوّلها إلى ملصق تظهر فيه امرأة بالغة الهزال (قهْمية)، عارية وبادية العظام، علِّق في كافة المدن الإيطالية خلال أسبوع الموضة بميلانو سنة 2007.
كانت البشاعة القصوى، طريقةً لنقد استغلال الجسد الأنثوي في إشهار الموضة بطريقة تحوّله إلى أقنوم. إنها طريقة جديدة لكشف النقاب عن الواقع الصارخ. قد تخدش "حياء" الجمهور، غير أنها تظل قيمة قصوى لنقد أحوالنا، ففي الدين كما في الفن، ليس ثمة من حياء!