قد تكون الحياة الشخصية الأقربُ إلى الفنان هي فنُّه، حيث ما يتجاوز الفنان، وما يبدو ماهيته الخافية عليه، وما لا يستطيع هو نفسه سبره وإدراكه. الفنان شخص فريد في فنه وليس بشراً عادياً في ذلك، لكنه عاديّ في غير ذلك. عادي إلى حد قد يكون لدى الآخرين فضول لمعرفته.
يريد الآخرون، العاديون أيضاً، أن يعرفوا في أي شيء، أو أشياء، يشترك الفنان معهم أو يقاسمهم إياها. قد يكون وراء ذلك أن الفن، لفرط ما هو فردي، يُخيّل لكثيرين أنه يعكس، على نحو ما، حياة الفنان، ولا بد له أن يمتّ، بطريقة ما، إلى هذه الحياة. لا بد أن لهذا الانعكاس وذلك الاتصال آلياتهما التي يغري البحث عنها وفيها.
من الشائق، بل ومن النباهة، أن نعرف كيف ترجع حياة الفنان وظروفها وأحداثها في قصيدة أو رواية أو مسرحية أو لوحة أو تمثال أو قطعة موسيقية. قد يكون هذا، في جانب منه إحدى مهمات الباحث أو الناقد، قد يكون واحداً من مجالات البحث والنقد، مجالاً خاصاً أو فرعاً قائماً بذاته، لكن حياة الفنان، الذي هو إذا اشتهر يتحوّل إلى قدر من العموم، تغدو، بطريقة ما ملكاً للعموم، ومن حق الآخرين أن يوازنوا هكذا بين حياة الفنان وبين فنّه. من حقّ هؤلاء أن يردوا نتاجه الى مصدره في الزمان والمكان والظرف والملابسات والحوادث.
ليست حياة الفنان إذن ميزاناً لفنّه وليست بالتأكيد ترجمة لهذا الفن، لكنها حاضرة بطرائق، متفاوتة وآليات شتى، في فنه، والاطلاع على هذه الحياة يجعلنا نواجه هذا السؤال، الشائق والعسير، في نفس الوقت. إننا هكذا نقيم الصلة بين ما يتجاوز الشخصية وبين ما يرتدّ إليها. على هذا فإن سير الكبار، فنانين وسواهم، جانب مهم في تناولهم ومطلب أساسيٌ لذلك. لا يمنعنا التفكير في أنها لا تفسّر الفن ولا يرتد هذا الفن إليها، لا يمنعنا ذلك من أن نضعها في عمق اهتمامنا.
من حق الآخرين أن يوازنوا بين حياة الفنان وبين فنّه
إذا عدنا إلى عصرنا الراهن لا نجد أن الفنان العربي، والأديب بخاصة، صريح في التعبير عن حياته وعن تجربته الشخصية والخاصة، وبالطبع عن صلته المحتملة، أو القائمة في ذهن الأديب، بين هاتين والنتاج الفني. هناك بالطبع سير بينها "أيام طه حسين" "سبعينيات ميخائيل نعيمة"، لكن حتى هاتين، على الرغم مما يحيطان به من ملابسات، قلّما ينزلان عن الأدب واللياقة والمثال الخاص.
في كلام طه حسين عن فقدان بصره وعن تجربته في الأزهر ما يزيح، قليلاً أو كثيراً، عن هذا المثال، لكن بشكل عام لا نكاد نعرف شيئاً عن دخائل وتفاصيل حياة الكثيرين الآخرين. استطاع توفيق صايغ أن يحصل على تفاصيل موثقة من حياة جبران خليل جبران، الأمر الذي جعل جبران مجدَّداً، جبران الحي والعائش، أمام أسئلة أخرى، بعضها تطرّق إلى أدبه وأسقط عليه تفسيرات جديدة. هذه التجربة التي أتاحتها إقامة جبران الأميركية فريدة في ذاتها، ولا أظن أن لها موازياً آخر في الحياة الأدبية العربية الراهنة.
بالطبع أدى كشف الصايغ وترجمته لعدد من رسائل جبران وماري هاسكلي والآخرين في حياة جبران إلى تجديد قراءة جبران وتجديد السجال حوله، لكن، عدا ذلك، لم تشهد الثقافة العربية حدثاً آخر موازياً، ولعل ما حدث منذ فترة من إماطة سليم بركات عن حدث في حياة محمود درويش هو بنت غير شرعية، ما أعقب ذلك من قبول ورفض يشيران إلى عدم اعتيادنا لهذا الضرب من الأشياء، وخبطنا فيه.
قد يردّ كثيرون ذلك إلى تقليد عربي يوصي بالتغطية على حياة الأشخاص، وقد يردّ هؤلاء ذلك إلى الإسلام. لكن قرّاء التراث لا يصطدمون بهذه التقية. في "الأغاني" مثلاً سِيَر كاملة بكل تضاعيفها وانحرافاتها عن السائد والتقليد. يكفي أن نقرأ، على سبيل المثال، سيرة بشار بن برد في "الأغاني" لنجد أن حياته بادية بكل ملابساتها، بدءاً من شكله الجسماني مروراً بثقافته وتجديفه وفجوره.
لن تكون سيرة أبي نواس شيئاً آخر. هذه السير في تقاطعها واتصالها ببعضها بعضاً تقدّم سيرة جامعة لمثقّفي عصر كامل. لا يسكت "الأغاني" عن زندقة وفجور أحد، ويُخيَّل إلى قارئ ذلك أنه يعينه، بصورة ما على قراءة الشعراء والدخول إلى عوالمهم.
* شاعر وروائي من لبنان