القلم بين الفأس والرصاص في الثقافة العربية

21 يناير 2016
في البدء كانت الكلمة (فيسبوك)
+ الخط -
"في البدء كانت الكلمة" تلك مقولة لخصت جريان نهر الحياة الذي لا يتوقف لكن الدلالة السيمانطيقية لتبدّيات اللغة عبر مسيرة تطورها تقودنا لحقيقة مفادها أنه لم يرسخ في الثقافة البشرية برمتها سوى القلم كسلاح بدلا من القلم كمحراث أو معول.


عربياً نجد في لغتنا كلمات وجملاً ذات بعد بؤري يركز الانتباه ويختزل القصد "هنا مربط الفرس وبيت القصيد، وهناك القصد كدليل السعي"، ولست أدري البلاغة أم القوة أيهما أشد عمقا في التعبير، كما نخطئ لنثبت قيمة الكلمة بمقولة الكلمة أقوى من الرصاص "متسلحين" بمفردة القوة التي تزين الكلمة وتعطيها مد رصانة ومشروعية، القوة التي اكتسحت كل شيء حتى عقلنا الباطن والجمعي، لا بد من الاعتراف بذلك لنصيب كبد الحقيقة والإصابة لا شك مشتقة من ثقافة الصيد فالحضارة في أحد أشكالها نتيجة صراع مزينة بما نجا من خراب ما خلفته لنا عصور الغزو في الغرب والشرق وبقي حاملا معنى القوة، ولأن حضارتنا البشرية بنيت بطريقة ما على الصراع بين بني الإنسان الماثل في كل الحضارات القديمة والحديثة وفي الإيديولوجيات على اختلافها، كان السلاح وحملته وقتلاه رمزا لإثبات الذات والهوية.

رأى ماوتسي تونغ القلم سلاحا عندما يكون الهدف بناء أفكار وثقافة، والفأس سلاحا عندما يكون المطلوب هدم بنى قديمة وأطلال ثقافة الاستعمار وثقافة الإقطاع لخطرها على المجتمع، وكثيرا ما كان حاضرا في أي ثقافة نَول تغييرها (المحرك والأداة) فحفلت ثقافات المجتمعات برمز خفي كالمال والاقتصاد والسلاح والعمل ولم تكن من ضرورة لأن تظهر بعلم أو رمز حزب، ففي أوروبا كان للمادية حضور كمقياس وازن وثقافة البروليتاريا كأساس للثقافة الاشتراكية، كما كان في أوروبا الغربية الاقتصاد الرأسمالي إلى جانب النزعة الإمبريالية، وكلها تمحورت حول المفاصل في تغيير المجتمعات للنهوض بالدولة، واهتمت كثير من الدول بالمنجز المادي لها وما تطلّبه من علم وعمل، كما تنامت نظريات في الجمال والمجتمع والفكر في أوروبا لدرجة نستطيع أن نقول إن معول الهدم للبنى القديمة من شكل إسبرطة، إلى أثينا، إلى الإقطاع، ثم البرجوازية، ثم العصر الحديث الديمقراطي والليبرالي كان واضحا ومتمايزا، بينما تأخر المجتمع المشرقي عن كل هذا الركب وكثيرا ما ابتلي بنخب ثقافية وسياسية كانت ظلا لنظريات حفل بها الغرب من أحزاب وكتل، ومذ قفز العسكر للسلطة اعتُسِفَ أي حراك ثقافي أو سياسي مستقل يكفل تطور هذه المجتمعات نحو فعالية مجتمعية مدنية تخلق فضاءها العام، لتوجد آلياتها بمعزل عن البنى الجاهزة المستوردة في أي فكرة أو نظرية، مع ضرورة تبيئة النظريات وفقا لثقافة الشرق وظروفه الموضوعية.

وفي ظروف القهر هذه؛ كثيرا ما تشكل في العقل الباطن للمثقف المعارض شكل ثوري مستبطن لكثير من العنف كونه غُيِّب بالقوة والبطش، فاغتيلت بذور نهضتنا وثقافتنا باغتيال المثقف من قوى السلطة، كما اغتيلت بالعنف المضمر والنوازع الانفعالية والحلول المرتجلة بعقول من بقي من مثقفينا، فحضرت في كتاباتهم الكلمة وقوة الرصاص والقلم كسلاح، في حين ارتفع في أوروبا المعول والفأس مما يشي بمعنى الهدم هدم القديم البالي بشكل متئد مؤسس اعتمد تغيير الأفكار قبل تغيير أشكال الحكم وغيرها؛ التي ظهرت كمنعكسات لتغيير الأفكار بينما ناضل وكافح العرب كفاحا دمويا تحت وطأة العسف والغصب تجاه تغيير شكل الحكم، ولكن مع تبرير ذلك عندما حانت الفرصة لوجود كتل بشرية هائلة في الربيع العربي اتجه الكثير نحو السلاح مرغمين، مما يعني حضور الرصاص كذروة قصوى لثورة عفوية لا كأحد أدوات ثورة ناتجة عن فعل تراكمي، وتخارج لفعل قلم/ فأس الهدم الممنهج المنظم في غياب المثقف ودوره في ثورات الربيع العربي؛ من حيث القدرة على التوجيه والبناء في ظرف طارئ يفقد فيه المنظَمُ آلياته في التواصل والعمل، إننا أمام شعوب تجاوزت نخبها الفاشلة وبات على نخب جديدة أن تظهر وتضطلع بما ناءت به سابقتها فالشعوب التي لا تفرز نخبها تكون مثل قطعان بلا راع، يقول كرين برتن في تشريح الثورات "إن المجتمعات التي تمر بالدورة الكاملة للثورة هي في بعض النواحي أقوى غير أنها لا تبزغ عادة بعد صنعها مباشرة"، مما يدفعنا لمواجهة حقيقة أن مجتمعاتنا لم تكمل دورتها وقفزت إلى ثورات فشلت في تحقيق أهدافها المرتجلة والعفوية حتى الآن، وأن ثوراتنا لم تنته بل بدأت مرحلة الكلمة والقلم كحصان أخير للرهان، فلا يمكن القبول ببقاء المثقفين الشباب كنادبين وباكين بجرح الوطن وسط هذا الثقل الكبير للهجرة وتفكك المجتمع والإحساس باللاجدوى لدى الفرد، وهم أمام مهمة النهوض بذواتهم نحو مشروع في الجذور، في عصر إن سئل فيه الغربي عن تعريف حالة أو ظاهرة يجيب بطريقة تنم عن طبيعة قراءته للحياة على أنها فعل حركي مستمر، بينما يقرأها شرقنا على أنها ستاتيك ثابت لأن ثقافة مجتمعاتنا مازالت تدور في حلقة استجلاب الماضي وتوصيف الحاضر منسوبا له، مما يعني ركودها وعجزها عن الخطو نحو تأسيس أولى لبنات الحياة الفاعلة من فكر ووعي وإنجاز مسلمات نزوعها المعرفي، مما يفتح باب السؤال عن المشاريع التي يجب أن يتنطع لها المثقفون في سائر بلدان المشرق.

(سورية)