اقرأ أيضاً: كسينجر.. نظام عالمي جديد وتقسيم المقسّم
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي يبدو جلياً أن الطرفين يلعبان وفقاً للتقويم الشرقي؛ فرغم الأصوات المنادية بضرورة تحقيق سيطرة أحادية مطلقة على الساحة الدولية، استمرّ الإيمان راسخاً لدى المكتب السياسي الصيني، منذ الانفتاح الكبير في عهد دينغ زاو بينغ في نهاية السبعينيات، بأهمية إنجاح الزواج الأميركي ـ الصيني.
بدوره، لم يفقد السيد كسينجر ثقته بهذا الارتباط المقدس. في حدى مقالاته المنشورة في مجلة "فورين بوليسي" قبل ثلاثة أعوام، يحاجج أنه "في مستقبل العلاقات الأميركية ـ الصينية، الصراع هو خيار وليس ضرورة". برأيه، إن التزام البلدين بالتعاون الاستراتيجي وبالاعتراف المتبادل بالنفوذ والأدوار الجيوسياسية يجب أن يكون دستوراً في العلاقات الدولية.
خلال زيارة الرئيس الصيني السابق هو جينتاو إلى واشنطن في شتاء عام 2011، أكّد الجانبان أهمية هذا التعاون. حينها شدّد الأخير مع مضيفه، الرئيس باراك أوباما، على التالي: "تؤّكد الولايات المتّحدة ترحيبها بدور صيني أعظم في الشؤون الدولية قائم على القوّة، الازدهار والنجاح. كما ترحّب الصين بالولايات المتّحدة بصفتها دولة في صلب منطقة آسيا ـ المحيط الهادئ تساهم في نشر السلام، الاستقرار والازدهار".
عشية الزيارة المرتقبة اليوم، للرئيس الصيني الجديد، شي جينغ بينغ، إلى واشنطن، يقف البلدان عند محطة تقويم للتطورات خلال السنوات الخمس الماضية. في هذه الفترة عملت واشنطن مع بكين على التعاون في مجالات متنوعة، من كبح جماح الحروب التجارية وصراع العملات، وصولاً إلى إدارة تضارب النفوذ في القطاعات الصناعية والحقوق المعرفية والاعتبارات البيئية، مروراً بالشرق الأوسط.
لا شكّ أن رؤية الإدارة الصينية الحالية يُحرّكها أكثر العنفوان ونزعات العظمة التاريخية مقارنة بالإدارة السابقة؛ فالرئيس كان قد بدأ عهده بنفخ تلك الروح في النظام التعليمي الأساسي، عزّزها برفع الصراع مع اليابان حول الحقوق الجغرافية إلى مستوى الخطر الاستراتيجي، وأخيراً أكّد نفوذ بلاده في بحر الصين الجنوبي؛ شنّ حرباً واضحة ومباشرة ضدّ الفساد ومدرائه في الأروقة المترهلة لبنية الإدارة الشيوعية، ووصل به الأمر إلى التسامح مع مستوى لطيف من العداء والمواجهة مع الولايات المتّحدة تكنولوجياً، عسكرياً ونقدياً.
لكن رغم تلك النزعة، هناك توافق عام بين المراقبين على أنّ زيارة الزعيم الصيني، وهي الثانية له منذ وصوله إلى منصبه قبل ثلاثة أعوام، سيكون هدفها التأكيد على الثوابت التي يفرضها الارتباط المقدّس بين الطرفين. "هناك أيضاً تكهنات بأن البلدين قد يعلنان عن اتفاق لافت، من دون أي إشارة أو دليل عن طبيعته، خلال زيارة زي"، وفقاً لما نقلته مجلة "إيكونوميست" أخيراً.
الأهمّ هو أن الزيارة ستكون محاولة لاشتمام المناخ العام والروح السائدة في أراضي العم سام، عند تخوم انتخابات رئاسية قد تتحوّل كابوساً للعلاقات بين البلدين؛ ففي حال فوز الجمهوري دونالد ترامب العام المقبل، فإنّ الصينيين سيُصبحون، كما المسلمين تماماً، على موجة لا تستقبلها هوائيات البيت الأبيض.
وبعث الملياردير المثير للجدل، وللنفور في آن، إشارات واضحة عن نيّته إعادة ضبط العلاقة مع البلد الشرقي على قاعدة "إعادة الوظائف إلى أميركا، ووقف مصّ دمائها". والنبض الذي يحمله من ولاية إلى أخرى موجود بقوّة في الروح الأميركية المتطرفة التي تهوى الاستهلاك والبذخ، ولكن من دون تحمل فاتورة أي أكلاف، بيئية كانت أم اقتصادية أم سياسية.
لكن أهل الصين واجهوا ما هو أخطر من ترامب، فـ "الدليل الألمع عن البراغماتية الصينية المتجذّرة هي كيفية تعاطي أبناء هذا البلد مع محتليهم"، بحسب ما يقول كسينجر في كتابه. ويضيف أنه "عندما كانت تنتصر الجيوش الأجنبية، كانت النخبة البيروقراطية الصينية تردّ بعرض خدماتها وطاعتها للغزاة على اعتبار أن الأراضي المحتلة هي شاسعة وفريدة بمكان لا يُمكن حكمها سوى باعتماد الطريقة الصينية، واللغة الصينية، والبيروقراطية الصينية القائمة".
يتسلّح الصينيون بهذه البراغماتية، في مواجهة اليمين الأميركي ويعوّلون في الوقت نفسه على الروح الأميركية الليبرالية التي ترى في الصين منافساً اقتصادياً، ولكن في الوقت نفسه الدعامة الثانية الأساسية للعولمة الرأسمالية في القرن الواحد والعشرين؛ هذه الليبرالية استفزّت اليمين لدرجة تصنيف باراك أوباما شيوعياً.
يتوق شي جنيغ بينغ لاستثمار هذه الروح التي تتجلّى حالياً في قطاع التكنولوجيا والمعلومات، حيث يلمع التعاون بين القطبين؛ فالأداة التقنية الأهم في الحياة الحديثة، وهي الهاتف الذكي، تُصنع في الصين. وبعض أهم المهندسين الفاعلين في مجالات الأبحاث والتطوير هم من أبناء الجالية الصينية، ولا شكّ أن بعض أهم مهندسي وتقنيي المستقبل هم طلاب صينييون يدرسون في الجامعات الأميركية.
انطلاقاً من أهمية مصانع الصين ويدها العاملة لإنتاج سلع القرن الواحد والعشرين (نضع جانباً هنا الاعتبارات الإنسانية والحقوقية الأساسية للعمال) وعلى خلفية قرارات سياسية واضحة من البلدين للانفتاح والتعاون، نما التبادل التجاري بينهما بما يعادل 400 في المائة منذ بداية الألفية؛ وعشية الزيارة المرتقبة، يُقدّر معدله السنوية عند 600 مليار دولار.
هنا تحديداً تظهر الدعامة الرئيسية للعلاقات بين البلدين التي تحسنت مع تركيز إدارة أوباما على المحور الآسيوي. فحتّى في ظلّ أصعب المحن الجيوسياسية في شرق القارّة، أي التناحر الصيني ــ الياباني على الجزر المثيرة للجدل، كانت بكين وواشنطن توقّعان على اتفاقية مناخية حيوية قد تشكّل مسوّدة لتوافق كوني خلال المرحلة المقبلة. وحتّى عندما كانت القرصنة الرقمية عند أوجها والجواسيس الصينيون يعبثون بأزرار الضبط الأميركية مستخدمين الأبواب الخلفية والأروقة المخفية على شبكة الإنترنت (راجع المقالين أدناه)، كان الطرفان يتفقان على إبرام صفقة مع إيران.
ما تؤكّده العلاقات الصينية الأميركية، ويُشدّد عليه الرئيس الصيني خلال الزيارة، هو أن زواج البلدين على المستويات الاقتصادية والأمنية والتكنولوجية، لا غنى عنه حتى الآن رغم كلّ المناكفات حول الحريات في الداخل الصيني ودور المنظمات غير الحكومية، ورغم مصالح واشنطن وحلفائها في بحر الصين الجنوبي، ورغم المواجهات عبر المنظمات المالية والاقتصادية البديلة التي تدعمها بكين.
فالطلاق يعني، وفقاً لتحليل هنري كسينجر، الانتقال من اللعبة الصينية إلى الشطرنج، وهنا "غالبية المواجهات تنتهي بانتصار كامل يتم تحقيقه عبر الإنهاك أو المناورة الماهرة التي تُنهي اللعبة بمهارة". أغلب الظن أنه ليس من مصلحة أحد انتهاء اللعبة وانتصار أحد الطرفين وعودة العالم إلى القطب الواحد.
اقرأ أيضاً: شغب الصين في شرق آسيا... منطقة أمام مصير مجهول