06 نوفمبر 2024
القهوة.. محبوبتنا السمراء
يحسب بعضهم أن العمر ليس إلا الأوقات الجميلة التي يقضيها الإنسان. ولذلك، فالدراسات التي توصل لها خبراء أميركيون، بعد ثمانية عشر عاما من البحث والملاحظة عن علاقة القهوة بطول العمر، كان الأجدر بها أن تكون أكثر دقة، فالعمر يطول بفعل السعادة التي نمارسها عادة، وبفعل ما نقنع به أنفسنا، وهذا ما يحدث مع محبوبتنا السمراء، فالقهوة ذلك المشروب الذي يقول لغويون إن اسمه هو أحد أسماء الخمر، ليس بسبب أنها تذهب بالعقل، بل لأنها تضعف شهية شاربها، كما تفعل الخمر تماماً، وفسّروا ذلك باشتقاق اسمها من الفعل "قها" الذي يعني ذهاب الشهوة عن الشيء، وإن كنتُ قد عرفت ذلك أخيرا، فهذا يفسر لي أنني لم أكن على حق، حين كان جدّي يمسك بثياب ضيفه، ويصرّ على أن يشرب القهوة السادة (الخالية من السكر) قائلا له: "اجلس لتتقهوى"، والحقيقة أنني كنت أضحك وقتها، وأعجب من قدرة جدّي على اشتقاق المصطلحات، لكنه كان على علم فطري باللغة أكثر مني، وكنت وقتها قد قطعت شوطاً في المدرسة، لكن جدّي، وغيره من أسلافنا، كانوا يصرّون على احتساء فنجان القهوة في بيوت الآخرين كاملاً، كي لا يجلبوا الفأل السيىء لبنات صاحب الدار، فلا يطرق بابَهن خاطب. وفي الوقت نفسه، ارتبطت القهوة بهذا الخاطب المجهول الذي كان، حين يطرق الباب مع أهله، لا يشربون قهوة أهل البيت إلا حين يُستجاب مطلبهم، وإلا فهم ينهضون تاركين فناجينهم العامرة بالمشروب الأسمر خلفهم.
ولا تزال القهوة، أيضاً، سيدة مجالس الوجهاء ورجال الإصلاح بين المتخاصمين، إذ لا يشرب الطرفان القهوة التي تحمّص وتسلق في مكان منزوٍ من الباحة، التي يجري فيها الاحتكام للعرف والشرع، حتى تنتهي المشكلة، فيشرب الجميع فناجين القهوة التي تدور بينهم دوراً وراء دور.
ولجدّتي مصطلحها الخاص بخصوص القهوة، فهي التي حذّرتنا من احتسائها نحن البنات، لكي لا ينبت لنا ذلك الشارب اللعين الذي ظل يرعبني حتى ربع قرن من عمري، فهي تطلق عليها "الخيط الأسمر". وكانت جدتي تهمس لنا، حسب مكانة ضيفتها، بأن نعد الخيط الأسمر أو الأبيض، والخيط الأبيض هو الشاي، والأغلى منه الأسمر الذي يقدم لضيفاتها العزيزات اللواتي تتفق معهن كحزب قوي أمام حزب جارة أخرى، حيث ينقلن إليها الأخبار والأسرار.
إذا كان العلماء قد خلصوا إلى دراساتٍ معمقةٍ عن فائدة القهوة في إطالة العمر الزمني، فهناك دراسة نفسيةٌ بريطانيةٌ لم تلق أي صدىً إعلامي، تقول إن فعل القهوة ليس كمشروب بقدر ما يرافق احتساءها من طقوس تعدّل المزاج، وبقدر ما لها من أهميةٍ حين تشربها مع من تحب، كما قال نزار قباني لحبيبته مقولته الشهيرة: "عندما أشرب القهوة معك، أشعر أن شجرة البن الأولى زرعت من أجلنا"، على الرغم من أن شجرة البن الأولى استخدمت حبوبها الجافّة المحمّصة، بعد أن يطحنها الصوفيون اليمنيون لكي تساعدهم على العبادة والرياضات الروحية طوال الليل، لكن لنزار شأنه في الحب وما يشعره مع فنجان قهوته الذي يساوي لديه الكثير. أما محمود درويش فيرى أنها يجب أن تُشرب على مهل، ومقترحه هذا يثبت ما خلصت إليه الدراسة النفسية أن الطقوس هي التي أعطت القهوة أهميتها، فهذا التمهّل يعطي الإنسان الفرصة لكي يخطّط، في بداية يومه، لبرنامج ذلك اليوم، وإن كان علماء بريطانيون قد خرجوا أيضاً بدراسةٍ تفيد بأن أسوأ أوقات تناول القهوة هو الصباح الباكر، وشحذوا أسبابا صحيةً عديدة لذلك، لكن لا أحد يلقي بالاً، ولا يرهف سمعاً لهم؛ لأن فنجان القهوة الصباحي مع صوت فيروز في الشرفة لا يمكن ليومٍ أن يبدأ من دونهما عند كثيرين، ومن كل الطبقات، خصوصا في فلسطين التي يتندر أهلها بأنهم يُفطرون على هذين الصنفين فقط، ولذلك خصوصيةٌ متفرّدة لهم. أما جبران خليل جبران فيرى أن المرأة التي يعتدل مزاجها بكوبٍ من القهوة لن ينتصر عليها أحد.
ولا تزال القهوة، أيضاً، سيدة مجالس الوجهاء ورجال الإصلاح بين المتخاصمين، إذ لا يشرب الطرفان القهوة التي تحمّص وتسلق في مكان منزوٍ من الباحة، التي يجري فيها الاحتكام للعرف والشرع، حتى تنتهي المشكلة، فيشرب الجميع فناجين القهوة التي تدور بينهم دوراً وراء دور.
ولجدّتي مصطلحها الخاص بخصوص القهوة، فهي التي حذّرتنا من احتسائها نحن البنات، لكي لا ينبت لنا ذلك الشارب اللعين الذي ظل يرعبني حتى ربع قرن من عمري، فهي تطلق عليها "الخيط الأسمر". وكانت جدتي تهمس لنا، حسب مكانة ضيفتها، بأن نعد الخيط الأسمر أو الأبيض، والخيط الأبيض هو الشاي، والأغلى منه الأسمر الذي يقدم لضيفاتها العزيزات اللواتي تتفق معهن كحزب قوي أمام حزب جارة أخرى، حيث ينقلن إليها الأخبار والأسرار.
إذا كان العلماء قد خلصوا إلى دراساتٍ معمقةٍ عن فائدة القهوة في إطالة العمر الزمني، فهناك دراسة نفسيةٌ بريطانيةٌ لم تلق أي صدىً إعلامي، تقول إن فعل القهوة ليس كمشروب بقدر ما يرافق احتساءها من طقوس تعدّل المزاج، وبقدر ما لها من أهميةٍ حين تشربها مع من تحب، كما قال نزار قباني لحبيبته مقولته الشهيرة: "عندما أشرب القهوة معك، أشعر أن شجرة البن الأولى زرعت من أجلنا"، على الرغم من أن شجرة البن الأولى استخدمت حبوبها الجافّة المحمّصة، بعد أن يطحنها الصوفيون اليمنيون لكي تساعدهم على العبادة والرياضات الروحية طوال الليل، لكن لنزار شأنه في الحب وما يشعره مع فنجان قهوته الذي يساوي لديه الكثير. أما محمود درويش فيرى أنها يجب أن تُشرب على مهل، ومقترحه هذا يثبت ما خلصت إليه الدراسة النفسية أن الطقوس هي التي أعطت القهوة أهميتها، فهذا التمهّل يعطي الإنسان الفرصة لكي يخطّط، في بداية يومه، لبرنامج ذلك اليوم، وإن كان علماء بريطانيون قد خرجوا أيضاً بدراسةٍ تفيد بأن أسوأ أوقات تناول القهوة هو الصباح الباكر، وشحذوا أسبابا صحيةً عديدة لذلك، لكن لا أحد يلقي بالاً، ولا يرهف سمعاً لهم؛ لأن فنجان القهوة الصباحي مع صوت فيروز في الشرفة لا يمكن ليومٍ أن يبدأ من دونهما عند كثيرين، ومن كل الطبقات، خصوصا في فلسطين التي يتندر أهلها بأنهم يُفطرون على هذين الصنفين فقط، ولذلك خصوصيةٌ متفرّدة لهم. أما جبران خليل جبران فيرى أن المرأة التي يعتدل مزاجها بكوبٍ من القهوة لن ينتصر عليها أحد.