حين أذيعت مسرحية صامويل بيكيت "كل ذلك الخريف" عام 1957 على الراديو في بريطانيا، كان هو في باريس، وقيل له إن بإمكانه سماعها من هناك، لكن الخشخشة والبث المتقطع حالا دون استماعه إلى أول مسرحية تُبثّ له على الإذاعة. أُرسل العمل مسجلاً على شريط لبيكيت، وكان ذلك ملهماً له لكتابة مسرحية "شريط كراب الأخير". كانت فكرة التسجيل تتصادى مع انشغال بيكيت بالزمن، من حيث إنها تثبيت للنص بالصوت، وتثبيت للصوت/ النص حيّاً في الزمن، وإلى اليوم يمكن سماع ذلك التسجيل المتوافر في أرشيف العالم الافتراضي.
لكن تسجيل النصوص الأدبية، أو "الكتب الناطقة"، بدأ من قبل لحظة بيكيت هذه، منذ الثلاثينيات تحديداً حين كانت التسجيلات تخصّ الأطفال والعميان (أضيف إليهم لاحقاً المصابون بالديسلكسيا)، وكان أولَ نص أدبي سُجّل صوتياً قصةُ "الغراب" لإدغار آلن بو، وفصلٌ من كتاب "حياتي اللاحقة" لهيلين كيلر.
لم يعرف الكتاب المسموع رواجاً حتى السنوات الأخيرة مع تطوّر التقنيات المتعددة الوسائط، لكنه ظل بعيداً عن زحزحة الكتاب المقروء بالعين عن عرشه، فقد بقي السماع فعلاً هامشياً، ومن النادر أن يتحدّث أحدهم عن كتاب اكتفى بسماعه ولم يقرأه. فهل سماع الكتب أقل شأناً من قراءتها بالعين؟ هل البصر أعلى مرتبة في الإدراك من الأذن؟ بعبارة أخرى، هل القراءة بالأذن أقل شأناً من القراءة بالعين؟
هذا الوضع بدأ بالتغيّر تدريجاً. ففي السنوات القليلة الأخيرة، يتحوّل الكتاب المسموع إلى قطاع مستقل في صناعة النشر، إذ تقول الإحصاءات إنه في عام 2018، وصلت قيمة حجم سوق الكتب المسموعة العالمي إلى نحو 3.5 مليارات دولار، بينما بلغت مبيعات سوق الكتب المسموعة في الولايات المتحدة وحدها 940 مليون دولار.
لا يمكن تحديد جمهور الكتاب المسموع بسهولة اليوم، ففي ما عدا الخدمات الأساسية التي يقدّمها للمكفوفين، بدأ كبار السن ينتبهون إليه. لكن توجد فئات مختلفة مهتمة أيضاً، لا سيما وقد شاع تحويل أعمال رائجة إلى كتب مسموعة، ومنها كتب التنمية البشرية، ويبدو أنها أصبحت واحدة من العادات الاجتماعية الناشئة التي تأخذ طريقها لأن تصبح مكرسة.
عادات كثيرة يمكن أن تتزعزع مع التحوّلات التي يعرفها العالم اليوم، مع جائحة كورونا وبعدها، ومنها عادات القراءة، فلا نعرف كيف سيخرج الناس بعد عزلتهم، وخصوصاً بعد التقائهم بالكتب والمواد الثقافية أكثر من أي وقت مضى. ها إن بعض المؤشرات تظهر طلباً على الكتب الصوتية بحيث من الممكن أن تصبح مطلوبة لمرافقة الناس إلى العمل وفي تنقلاتهم المختلفة، كما هو الحال مع الموسيقى.
هكذا قد تكون البشرية على مشارف كسر احتكار العين لفعل القراءة، ويبدو أن خدمات كثيرة ستعمل على الترغيب في هذا الانتقال، من ذلك نجد اليوم تسجيلاً لكتاب "موت ابن حاقان البخاري في متاهته" لبورخيس بصوت أورهان باموك، وكتاب "الحب بعيداً عن الوطن" لإيتالو كالفينو بصوت سلمان رشدي. كل ذلك يعني أن هناك حرصاً على إيصال الكتاب إلى القراء عبر الأذن.