31 أكتوبر 2024
اللغة وطناً.. الفرنسية والعامية في المغرب
"نعم لدي وطن: اللغة الفرنسية". عبارة كاتب شهير، وترك بصمات واضحة في المتن الروائي الفرنسي، بحكم تطويعه لغة موليير، وتمكنه من الصناعة السردية، وبحكم رؤيته الفلسفية العميقة والقلقة. إنه الكاتب التراجيدي، ألبير كامي. استعار العبارة منه الكاتب والصحافي، جون دنييل، عميد الصحافة الفرنسية والمؤسس والمدير الحالي لمجلة نوفل أوبسرفاتور، عندما حرر افتتاحية، في الأسبوع الأخير من إبريل/نيسان الماضي، بعنوان "اللغة وطننا". وأن يختزل دانييل، الحكيم والممتلئ فكراً وفلسفة وقيما يسارية، الوطن في اللغة، ويجعلها رديفا للوجود التاريخي والجغرافي والمادي والرمزي والحضاري والثقافي والبشري لفرنسا، فذلك معناه أن مجد فرنسا وكيانها وكينونتها وجاذبيتها وألقها وأنوارها ومذاهب فلاسفتها ومشاكسات شعرائها وانزياحات فنانيها وعبقرية أمكنتها وخصوصية جغرافيتها السياسية ورصانة مؤسساتها وخصوبة دساتيرها وثراء قوانينها، وعلو كعب علمائها وباحثيها، وشهرة أعلامها وتنوع إعلامها، ذلك كله ممتن ومدين للغة الفرنسية، حتى لو كان الفرنسيون يدركون، وهم على حق وصواب، أن الإنجليزية لغة مشتركة بين العلماء في العالم، وأن الغالبية العظمى من المنشورات والمؤتمرات العلمية تتم بلغة شكسبير، بل أصبحت الإنجليزية لغة السينما والفن والإعلانات والرياضة، ويشاهدها الفرنسيون، كل يوم، على شاشات تلفزيوناتهم.
الكبرياء والتاريخ والكرامة والهوية، عناصر تدفع الأمم إلى التمسك بلغتها، والتفاخر بمنجزاتها في شتى مجالات المعرفة وحقولها. ولدى قراء هذه السطور وفئات واسعة من العرب في بلادهم ما يكفي من الذكاء والغيرة والوطنية والحكمة ليحكموا على بعض السلوكات اللغوية الشاذة، والمواقف المتطرفة التي تسجل وتنشر، في بلد كالمغرب الذي ينص دستوره بوضوح أن العربية والأمازيغية لغتان رسميتان للبلاد. ويرى معنيون بتدبير الشأن اللغوي في المغرب أن من يخل بروح الدستور يسعى إلى الفتنة اللغوية، وإلى إيجاد حالة من التشظي والانفصام والاستلاب، وتوفير شروط احتقان، أو انفجار هوياتي، عواقبه وخيمة وثقيلة. ولهذه المواقف التي تنسف مقتضيات الدستور وتستخف بالاختيارات اللغوية والثقافية للأمة يحركها، في ذلك، منطق المصالح الذاتية الضيقة، بعد سيكولوجي وثقافي استلابي، ومرتبطة، أحببنا أم كرهنا، بلوبي مهيكل ومنظم، له مصالح مادية مباشرة، في الدفاع المستميت عن استعمال العامية، في صورها الفجة والسوقية والمنفرة والمتماهية بشكل سافر مع كل ما هو فرنسي. وهنا تثور أسئلة كثيرة، من قبيل: أين القوانين وأحكام الدستور؟ أين الأحزاب فاعلاً سياسياً حاملاً مشاريع وبرامج وتصورات، ومستنداً إلى مرجعيات وثوابت فكرية وحضارية؟ أين النخب التي يُفترض أن تكون الصوت والضمير الجماعي الذي يقف في وجه عوامل التعرية الثقافية والهوياتية؟ أين العلماء الذين يجب أن يشكلوا سداً منيعاً لصد التشوهات والتصدعات اللغوية والثقافية؟ أين المجتمع المدني الذي يجب أن يلعب دوره في المراقبة والاعتراض؟ أين دور المؤسسات التعليمية، الجامعات خصوصاً؟ أين الرسالة التربوية والوطنية للنقابات؟ أين صلاحيات الحكومة ومؤسسات الحكامة، كما هو منصوص عليها في الدستور؟
أصبح المسخ اللغوي العام طاغياً في الشوارع والفضاءات الحيوية، فإلاعلانات والملصقات
تكتب بلغة منحطة، لا هوية لها ولا أصل ولا فصل، لغة يقولون عنها إنها الدارجة "العامية" المغربية، علما أنها هجانة لغوية لقيطة مسكونة بهاجس تجاري. أليس هناك من يحاسب منتجيها؟ ثمة صدمة قوية لها ارتدادات واسعة، نتعرض لها على مدار اليوم، بسبب غرابة اللغة الإعلانية والبرامج والمسلسلات والأفلام المصحوبة بترجمات ركيكة وعرجاء وتعليقات ترتكب مذابح معلنة في حق اللغة السليمة، ولا يمكن أن يقبلها عقل سليم أو منطق مهني يقظ. خلاصة هذا الواقع اللغوي أن هناك توجها غير مسبوق إلى تدمير العربية النقية والجميلة واستئصالها، وإفراغ العامية الراقية من محتواها. ومهندسو هذا الاستئصال الذين يدعون الدفاع عن الدارجة (العامية) أصلاً لا يتحدثون بها، فهم يجدون متعة استثنائية ولذة وبهجة وارتياحاً عندما يتحدثون بالفرنسية.
ليس في التأشير إلى هؤلاء، وفي طرح هذه القضية شوفينية وتعصب للعربية، وإنما المراد هو القول إلى الذين يحملون قنابل موقوتة في أذهانهم واستيهاماتهم الثقافية واللغوية، إن شرائح عريضة تقرأ باللغة الفرنسية أكثر مما تقرأ بالعربية، ولديها جديد إصدارات دور النشر في باريس، وتتابع أغلب النقاشات في القنوات والإذاعات الفرنسية، وتتجول يومياً بين عدة قنوات وإذاعات، وتشارك بمداخلات بالفرنسية عندما يقتضي الأمر ذلك، وهي في الوقت نفسه، تعتد بالعربية. كما أن الكبرياء والتاريخ والكرامة والهوية عناصر تدفع جميع الأمم إلى التمسك بلغتها وتاريخها وحضارتها، بعيداً عن المقاربات الشعبوية التبسيطية. والمشكل عندنا في المنطقة العربية سياسي، أي غياب قرار واضح في مجال السياسة اللغوية. ولذلك، نشاهد مجازر ترتكب في وسائط الإعلام العديدة، المكتوبة والمرئية والمسموعة والإلكترونية. وقد بدأ صحافيون يجنحون إلى اعتماد لغة مسطحة وهجينة، اعتقاداً منهم أنهم يكرسون بذلك مفهوم القرب الإعلامي، لكنهم، في واقع الأمر، يتسببون في حوادث سير لغوية على امتداد اليوم، تخلف موتى وجرحى ومعطوبين بعاهات مختلفة، ما يطرح بجدية التفكير في إحداث مؤسسات أو آليات وطنية للوقاية من حوادث اللغة.
ألا يشاهد المغاربة القنوات العربية، ويتواصلون معها، ويفهمون أخبارها؟ ألا يبحرون في المواقع الإلكترونية المحررة بعربية في متناول الجميع؟ كم زائراً يزور المواقع التي تستعمل اللغة الفرنسية؟ وما هي الصحف الأكثر مقروئية في المغرب؟ هل المغرب العميق يتحدث الفرنسية؟ ومع ذلك، يدافع جزء من الارستقراطية اللغوية والاجتماعية عن الفرنسية،
ويحرصون على استعمالها والتواصل بها. ولتبرير ارتباط هذه الشريحة الاجتماعية المسكونة بعشق لغة موليير بانشغالات الناس، فإنها لا تكف عن الترافع من أجل عامية غير قادرة علمياً على الاستجابة لمتطلبات سلوكية وتربوية وعلمية وثقافية عديدة، علماً أنه يمكن الاستئناس ببعض كلماتها في الشرح والتبسيط في المرحلة الابتدائية. وعلما أن في المغرب عاميات تطرح مشكلا حقيقيا في تحقيق المشترك اللغوي، بمعناه الوظيفي والعقلاني والمنتج.
يقول الشاعر والزجّال المغربي، أحمد لمسيح، في مقابلة معه نشرتها صحيفة المساء المغربية، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، "أستغرب لبعض المثقفين، ولبعض الزَّجَّالِين بالخصوص، أنهم تحمَّسُوا لهاته الدعوة الملغومة، والمُلْتَبِسَة، [يقصد التدريس والكتابة بالدارجة، على الرغم من أنني أدافع عن الكتابة بالعامية، حقاً إبداعياً، أعني خارج كل الدعوات التي هي ترويج مغلوط لأفكار مغلوطة. يمكن أن تتم الاستعانة بالدارجة في تفسير بعض الأمور في القسم، وفي الدرس، وهذا يحدث في كل البلدان، لكن الدرس يبقى عربياً. وأنا أتساءل: لماذا يعود بنا هؤلاء إلى نقاش ودعوات فشلت في الثلاثينيات في مصر ولبنان، فسعيد عقل مثلاً، كشاعر عربي كبير، أفْسَدَتْه السياسة، لأنَّه كان يدعو إلى العامية، وكتَبَ بها. أنا أرتاح حين أجد قامات فكرية، أو إبداعية كبيرة، تعترف بالتنوُّع الثقافي واللغوي، ولا تحصر نفسَها في ادِّعاء يكتفي بلغة دون أخرى".
ما يقوله الشاعر لمسيح من العقلانية والواقعية اللغوية المفقودة في المغرب، والتي تقوم على الاعتراف المتبادل بين مختلف مكونات النسيج اللغوي الوطني. وليس الإقصاء والتنابذ والاحتقار والقتل الرمزي. وهذا الموقف عين العقل والصواب، لأنه عقلاني ودستوري ووطني، يسعى إلى تجنب الفتن والتصدعات الهوياتية والثقافية والاجتماعية.
الكبرياء والتاريخ والكرامة والهوية، عناصر تدفع الأمم إلى التمسك بلغتها، والتفاخر بمنجزاتها في شتى مجالات المعرفة وحقولها. ولدى قراء هذه السطور وفئات واسعة من العرب في بلادهم ما يكفي من الذكاء والغيرة والوطنية والحكمة ليحكموا على بعض السلوكات اللغوية الشاذة، والمواقف المتطرفة التي تسجل وتنشر، في بلد كالمغرب الذي ينص دستوره بوضوح أن العربية والأمازيغية لغتان رسميتان للبلاد. ويرى معنيون بتدبير الشأن اللغوي في المغرب أن من يخل بروح الدستور يسعى إلى الفتنة اللغوية، وإلى إيجاد حالة من التشظي والانفصام والاستلاب، وتوفير شروط احتقان، أو انفجار هوياتي، عواقبه وخيمة وثقيلة. ولهذه المواقف التي تنسف مقتضيات الدستور وتستخف بالاختيارات اللغوية والثقافية للأمة يحركها، في ذلك، منطق المصالح الذاتية الضيقة، بعد سيكولوجي وثقافي استلابي، ومرتبطة، أحببنا أم كرهنا، بلوبي مهيكل ومنظم، له مصالح مادية مباشرة، في الدفاع المستميت عن استعمال العامية، في صورها الفجة والسوقية والمنفرة والمتماهية بشكل سافر مع كل ما هو فرنسي. وهنا تثور أسئلة كثيرة، من قبيل: أين القوانين وأحكام الدستور؟ أين الأحزاب فاعلاً سياسياً حاملاً مشاريع وبرامج وتصورات، ومستنداً إلى مرجعيات وثوابت فكرية وحضارية؟ أين النخب التي يُفترض أن تكون الصوت والضمير الجماعي الذي يقف في وجه عوامل التعرية الثقافية والهوياتية؟ أين العلماء الذين يجب أن يشكلوا سداً منيعاً لصد التشوهات والتصدعات اللغوية والثقافية؟ أين المجتمع المدني الذي يجب أن يلعب دوره في المراقبة والاعتراض؟ أين دور المؤسسات التعليمية، الجامعات خصوصاً؟ أين الرسالة التربوية والوطنية للنقابات؟ أين صلاحيات الحكومة ومؤسسات الحكامة، كما هو منصوص عليها في الدستور؟
أصبح المسخ اللغوي العام طاغياً في الشوارع والفضاءات الحيوية، فإلاعلانات والملصقات
ليس في التأشير إلى هؤلاء، وفي طرح هذه القضية شوفينية وتعصب للعربية، وإنما المراد هو القول إلى الذين يحملون قنابل موقوتة في أذهانهم واستيهاماتهم الثقافية واللغوية، إن شرائح عريضة تقرأ باللغة الفرنسية أكثر مما تقرأ بالعربية، ولديها جديد إصدارات دور النشر في باريس، وتتابع أغلب النقاشات في القنوات والإذاعات الفرنسية، وتتجول يومياً بين عدة قنوات وإذاعات، وتشارك بمداخلات بالفرنسية عندما يقتضي الأمر ذلك، وهي في الوقت نفسه، تعتد بالعربية. كما أن الكبرياء والتاريخ والكرامة والهوية عناصر تدفع جميع الأمم إلى التمسك بلغتها وتاريخها وحضارتها، بعيداً عن المقاربات الشعبوية التبسيطية. والمشكل عندنا في المنطقة العربية سياسي، أي غياب قرار واضح في مجال السياسة اللغوية. ولذلك، نشاهد مجازر ترتكب في وسائط الإعلام العديدة، المكتوبة والمرئية والمسموعة والإلكترونية. وقد بدأ صحافيون يجنحون إلى اعتماد لغة مسطحة وهجينة، اعتقاداً منهم أنهم يكرسون بذلك مفهوم القرب الإعلامي، لكنهم، في واقع الأمر، يتسببون في حوادث سير لغوية على امتداد اليوم، تخلف موتى وجرحى ومعطوبين بعاهات مختلفة، ما يطرح بجدية التفكير في إحداث مؤسسات أو آليات وطنية للوقاية من حوادث اللغة.
ألا يشاهد المغاربة القنوات العربية، ويتواصلون معها، ويفهمون أخبارها؟ ألا يبحرون في المواقع الإلكترونية المحررة بعربية في متناول الجميع؟ كم زائراً يزور المواقع التي تستعمل اللغة الفرنسية؟ وما هي الصحف الأكثر مقروئية في المغرب؟ هل المغرب العميق يتحدث الفرنسية؟ ومع ذلك، يدافع جزء من الارستقراطية اللغوية والاجتماعية عن الفرنسية،
يقول الشاعر والزجّال المغربي، أحمد لمسيح، في مقابلة معه نشرتها صحيفة المساء المغربية، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، "أستغرب لبعض المثقفين، ولبعض الزَّجَّالِين بالخصوص، أنهم تحمَّسُوا لهاته الدعوة الملغومة، والمُلْتَبِسَة، [يقصد التدريس والكتابة بالدارجة، على الرغم من أنني أدافع عن الكتابة بالعامية، حقاً إبداعياً، أعني خارج كل الدعوات التي هي ترويج مغلوط لأفكار مغلوطة. يمكن أن تتم الاستعانة بالدارجة في تفسير بعض الأمور في القسم، وفي الدرس، وهذا يحدث في كل البلدان، لكن الدرس يبقى عربياً. وأنا أتساءل: لماذا يعود بنا هؤلاء إلى نقاش ودعوات فشلت في الثلاثينيات في مصر ولبنان، فسعيد عقل مثلاً، كشاعر عربي كبير، أفْسَدَتْه السياسة، لأنَّه كان يدعو إلى العامية، وكتَبَ بها. أنا أرتاح حين أجد قامات فكرية، أو إبداعية كبيرة، تعترف بالتنوُّع الثقافي واللغوي، ولا تحصر نفسَها في ادِّعاء يكتفي بلغة دون أخرى".
ما يقوله الشاعر لمسيح من العقلانية والواقعية اللغوية المفقودة في المغرب، والتي تقوم على الاعتراف المتبادل بين مختلف مكونات النسيج اللغوي الوطني. وليس الإقصاء والتنابذ والاحتقار والقتل الرمزي. وهذا الموقف عين العقل والصواب، لأنه عقلاني ودستوري ووطني، يسعى إلى تجنب الفتن والتصدعات الهوياتية والثقافية والاجتماعية.