المثقف في خدمة الصراع الأهلي
حالة استقطاب كبيرة نعايشها في المشرق العربي، نتجت عن انهيار الدولة، أو ضعف سلطتها المركزية، وحصول صراعٍ أهلي بين المكونات الاجتماعية على النفوذ داخل الدول المنهارة. وأيضاً، نتيجة تنافس المحاور الإقليمية الذي تعمل معه الآلة الإعلامية الخاصة بكل محور، لتنتج سرديتها الخاصة بالأحداث، وهي سردية تتقاطع، أو تتطابق، مع سردية الجماعات الأهلية المتصارعة على امتداد الإقليم، وتقوم بالتعبئة والتحشيد ضد المحاور المنافسة. عامة الجمهور بفعل الضخ الإعلامي أصبح مستقطباً ضمن هذه السردية أو تلك، لكن الاستقطاب يبتلع، أيضاً، المثقفين والفاعلين ضمن المشهد الثقافي العربي، وحتى أولئك الذين ادَّعَوا، في أوقاتٍ سابقة، رفضهم التمظهر الطائفي للاستقطاب السياسي، وقدرتهم على قراءة الخطاب السياسي، بشكل نقدي، نجدهم، اليوم، منخرطين في الاستقطاب بصورته الأهلية.
المثقف الذي نتحدث عنه، هنا، لا يُقدِّم أي قراءة نقدية للحدث، ولا يضع مسافة بينه وبين صانعيه، ولا يُفعّل أي أدوات معرفية في محاولة الفهم، إذ يأخذ الرواية الإعلامية المقدّمة باعتبارها مسلّمة، ويبني عليها موقفه، وهو لا يقوم سوى بإعادة صياغة الخطاب الشعبوي، الذي يتبناه المنخرطون بشكل مباشر في الصراع الأهلي، والمتحدثون باسم الطوائف والعشائر، ليصبح خطاباً مُنمقاً أكثر، أي أنه يعيد إنتاج الرواية السائدة في وسائل الإعلام، وربما يَمُدُّها ببعض التجميل الثقافي، عبر إدخال مصطلحات فكرية تُزخرِف الخطاب، غير أنه لا يصنع شيئاً، ولا يقدم قراءة من نوعٍ مختلف، كما أنه مُستَلَب لتفسير الصراع طائفياً (أو أهلياً)، ومتجاوزٌ لعوامل أكثر أهمية في تفسير صراعات المنطقة (من دون نفي وجود قوى طائفية، تُصَعِّد البعد الطائفي في الصراع)، ويؤكد على التصوير الساذج، حول انقسام طائفي عمودي، والذي يُستخدم للتحشيد والتعبئة، لكنه لا يفسر جوهر الصراع في المنطقة.
عندما ينخرط المثقف في الصراع ضمن جماعته الأهلية المُستَنفَرة، فإنه يعمل على تعزيز خطاب المظلومية لديها، ويركز على الجرائم المرتكبة بحق أفرادها، ويقلل مما يرتكبه أفرادها بحق الآخرين. لذلك، نجد هذا المثقف يعمل على تضخيم جرائم مليشيات الخصوم، وغض النظر عن جرائم المليشيات التي ينحاز لها، واعتبارها، في أحسن الأحوال، أخطاءً فردية، أو ردة فعل على الاعتداء من الآخرين. وهكذا، فإن كل هذا يصب في خانة تبرير الانخراط في الصراع الأهلي، والتموضع مع القوى المتصارعة تحت عناوين مذهبية، واستمرارية هذا الانخراط بسبب المظلومية، والاعتداء من الخصوم.
يصبح دور المثقف مع هذا التموضع في الصراع هو التبرير، ويتخذ هذا التبرير أشكالاً متعددة، منها شيطنة الخصوم ونزع إنسانيتهم، ونفي الانتماء الوطني عنهم، وتصويرهم محتلين، في تطبيق كلاسيكي لأدبيات صراعات الهوية. ولا يفوت هذا المثقف تبني ما يمكن أن نسميها "الجبرية السياسية" بخصوص جماعته، فأفراد جماعته يتصرفون بطريقة آلية، وليس لهم إرادة في أفعالهم، وكل ما هناك هو ردة فعل آلية تجاه اعتداء الخصوم، وهم، بالتالي، ليسوا مساهمين في المسؤولية عن الصراع الأهلي، وإنما هم ضحايا هذا الصراع، ولا يملكون سوى رد الفعل "المُبرَّر".
يفتقد هذا المثقف عادةً إلى الشجاعة، وهو لا يستطيع أن يرفع صوته عالياً بمعارضة الوسط الذي ينتمي إليه، ولا يقوم بدورٍ في تنوير الجمهور المُستَنفر طائفياً. ويمكن أن يقدم مواقف خجولة أحياناً، على العكس من رغبة الجمهور وتوجهه، لكنه يُفضِّل غالباً مسايرة هذا الجمهور، وحينها يخرج منتفش الريش، ويُرعِد ويُزبِد، بما يعني أنه عاجز عن الانفكاك من أسر جماعته الأولية.
ومع الاعتراف بأن كلفة معاكسة الوسط الذي ينتمي إليه المثقف عالية، والجهد الذي على المثقف بذله، لتمييز موقفه عن الاستقطاب القائم كبير، إلا أن هذا لا يعفي المثقف الذي ينشد التغيير، وينحاز إلى قيم الحداثة والديمقراطية والمواطنة، من دورٍ ما في مواجهة التسعير الطائفي، غير أن بعض المثقفين يفضلون الخيارات السهلة، من قبيل الانحياز الطائفي السافر في صراعات المنطقة، والحديث عن وجوب رفض التهويل بخصوص الطائفية، وكسر الحاجز النفسي معها، واستخدام المصطلحات الطائفية في التوصيف والتبرير، واعتبار مناهضة الطائفية غطاءً لتبرير جرائم الخصوم، وأمراً مرفوضاً تجب مواجهته، ومساءلة مواقف المثقفين الآخرين، ضمن مفاصلةٍ على طريقة جورج بوش: إما معنا أو ضدنا.
ينقل هذا المثقف اللغة الطائفية، والخطاب الشعبوي، إلى المشهد الثقافي، أحياناً، من دون تجميل، ولا ينفك عن اتخاذ مواقف من مجمل الأحداث والأطراف، انطلاقاً من انحيازاته المذهبية، بما فيها المواقف من التدخلات الخارجية في الصراعات الأهلية العربية، فهذا الطرف جيد و"أخلاقي"، لأنه يدعم جماعتنا، وذاك الطرف مجرم وشيطاني، لأنه يدعم خصومنا. وهذا التوصيف، فوق أنه لا يخلو من السذاجة، يعبر عن مستوى الانخراط في قواعد الاشتباك الأهلي وصراعات الهوية.
النتيجة الإجمالية هي نهاية دور المثقف النقدي، المشكك بالروايات الإعلامية، المُصنعة في المطابخ السياسية، وبالخطابات الشعبوية، الناتجة من الاندفاع الغرائزي في الصراعات الأهلية، واستبدال الدور النقدي والعقلاني بالتبشير بالشعبوية، وإعادة تصدير الخطابات الغرائزية في صورٍ ثقافية. وتكشف حدة الاستقطاب هشاشة المثقف وفكره، حين يندفع وراءها لتقوده، من دون أدنى مقاومة منه.