المثقف والسلطة... والجماهير
في كتابه "المثقف والسلطة"، يعرض إدوارد سعيد إشكالية تحيط بمفهوم المثقف في مجتمعاتنا، على صعيدي التعريف والدور، فيقول "من اليسير دائماً على المثقف، ومما يساعده على تحقيق شعبيته، أن يستسلم لطُرُق التبرير التي تجعله يحس بأنه على حق، تلك الطرق التي تُعمى البصر عن إدراك الشرور التي تُرتكب باسم مجتمعه العرقي، أو القومي. ويصدق هذا خصوصاً في فترات الطوارئ والأزمات، ففي غضون حشد المشاعر القومية لدعم حرب جزر الفوكلاند أو حرب فيتنام، مثلا، كان التساؤل عن عدالة أي حرب يُفسّر بأنه معادل للخيانة، ولن يجد المثقف سبيلاً أقدر من هذا إلى فقدان قلوب الجماهير. لكن، عليه، بالرغم من ذلك، أن يرفع صوته، مُندداً بهذا الضرب من ضروب القبلية، من دون حساب لما قد يكلفه ذلك على المستوى الشخصي".
لا يضع سعيد، هنا، يده على الجرح الذي نعاني منه، قراءً وكتّاباً، جماهير ونخباً، وحسب، بل يحاول أن يعالجه بالمكاشفة، أولاً، ثم التحليل والمواجهة. لم يعش سعيد ليعاصر الدور الضخم الذي تضطلع به مواقع التواصل الاجتماعي حصرياً في هذا النوع من الكشف، لكنه في كتابه هذا، وقبله في "صور المثقف"، استشرف ما يمكن أن يكون، وتنبأ بكثير مما نعيشه، ونحن نقرأ لمن يطلق عليه عادة توصيف المثقفين. وقد فضل كثيرون منهم الاستسلام لطرق تبرير تجعلهم يحسون بأنهم على حق، على الرغم من أنهم يعرفون، قبل أن يعرف غيرهم، أنهم ليسوا كذلك! يقول سعيد إن الأمر يصدق، (ربما يقصد أنه يتفاقم)، في فترات الطوارئ والأزمات، ولا أظن أن مجتمعاً عاش فترة حافلة بالأزمات، ويمكن أن نصفها بأنها فترة طوارئ، كالمجتمع العربي الذي أمضى السنوات الأربع الأخيرة غارقاً في هذه الطوارئ والأزمات المتعددة، على أصعدة الفرد والجماعة والجماهير والنخبة، وعلى صعيد الشعوب والسلطات الحاكمة. ورصد سريع لمواقف معظم المثقفين العرب تجاه ما حدث، وما زال يحدث، يجعلنا نسترجع كلام إدوارد سعيد في ما يشبه النبوءة واضحة المعالم. فهذا الرجل الذي عاش المنفى الاختياري، أو القدري، سنواتٍ كونت تجربته العلمية، معظمها أثبت أنه ينظر للمشهد العربي المعاصر نظرة دقيقة، إلى حد يجعلنا نظن أنه مقيم فيه، لم يغادر جغرافيته يوماً، ونظرة شاملة إلى حد يجعلنا نظن أنه يطل عليه من بعيد جداً، والحق أنه وفق كثيراً بين الموقعين، فكان، في كل رؤاه، ينطلق من نقطة التقاء الموقعين، القريب الدقيق والبعيد الشامل.
ولو قدر لسعيد أن يعيش الربيع العربي، وثوراته ذات المنطلقات الواحدة، على الرغم من تناقض المسارات والمآلات والنتائج لاحقاً، لاستغنى، ببساطة، عن مثالي حربي فيتنام والفوكلاند، ولوجد في التجربة العربية ما يرفد رؤيته العلاقة الشائكة بين المثقف والسلطة، وأيضاً، بين المثقف والجماهير بأمثلة حية كثيرة فضحت نفسها بنفسها، في كتبها ومقالاتها، وساهمت مواقع التوصل الاجتماعي في تعريتها، بشكل تام ونهائي.
لكن، هذا لا يمنع من دعوة من يريد فهم موقف المثقفين العرب تجاه ثورات الربيع العربي، وتداعياتها المستمرة، إلى قراءة، أو إعادة قراءة كتاب "المثقف والسلطة"، لتطبيق رؤى إدوارد سعيد، ونظراته الفكرية والأخلاقية والمجتمعية على حالات جماعية وفردية "مثقفة". انساقت هذه النخبة المثقفة، في مصر مثلاً، للدهماء الواقعة في خدر الانقلاب العسكري، بما يرسخ شعبيتها المزيفة، ويبعد عنها شبح الاتهام الظالم بالخيانة الوطنية، كما أشار إليها سعيد، ولو على حساب الصورة المفترضة للمثقف الحقيقي! وفي "عودة الوعي" الذي أصبحنا نرصد بعض مؤشراته، أخيراً، لدى بعض هؤلاء المثقفين دليل إدانة لهم، فهذا الوعي لم يعد، وعلى استحياء، إلا استجابة، أيضاً، لشكل آخر من الدهماء، وبعد أن تفاقم عجزهم عن تلميع صورة السلطة، بشكل يرضيها.. للأسف.