صوتُ الطبول يعلو ويعلو. أحاول أن أسمعَ الخبر الذي تبثّه الشاشة عن المدوّن الشاب الذي قُتل في المعتقل قبل أسبوع. فالخبر يقول إنّ الطبّ الشرعي يؤيّد البقع الزرقاء على جثته. الطبولُ تُقرع بشدّة ولا أسمع بقية الخبر. أطفئ التلفاز، ثمّ أرتدي معطفي الأسود وأخرجُ من البيت إلى الشارعِ المزدحم الملاصق للبيت.
الجو بارد جدًا، وحرارة فمي تشكّل ضبابًا أمام وجهي. أقتربُ من المحل الذي يوزّع الشاي على الناس مجانًا وأطلب كوبا من الشاي.
ــ تفضّلي يا أختي.
يحرق يدي الكوب البلاستيكي. أمسكُ أعلى الكوب، وأقفُ جنب الكوخ الطيني الذي صُنع لينقل المارّة إلى البيئة المكانية الذي كان يعيش فيها الإمام حسين. أرى من بين ثقوب النافذة الخشبية الراية السوداء التي كُتب عليها بخطٍ أحمر "السلام عليك يا سيد الشهداء". سعف النخيل تغطي سطح الكوخ، فأتذكّر ما قاله صديقي: "يريدون تحويل البلد إلى بستان نخيلٍ، لا تفترق فيه الأشجار عن بعضها".
رُبط خروفان بالقضبان الحديدية جنب الشارع. أتأمّل عينيهما، كأنّهما تقولان إنهما تعرفان أنّ النهاية قريبة. ترى ما كانتْ تقول عينا المدوّن الشاب في لحظاته الأخيرة؟
يلفتُ نظري صبي يضربُ الخروفين بالعصا التي يقرع بها الطبلة الصغيرة المعلّقة على كتفه. تعدّل أمه عباءتها السوداء وهي تبتسم له بفخر. أقتربُ منه وأقول له: يشعرُ الخروف بالألم، يا خالتي.
ينظر الصبي إليّ صامتَا. تحتضنه الأم قائلةً: تعال يا ماما. نريد أن نتفرّج على مواكب العزاء، سيذهبون بالخروف بعد قليل ويذبحونه.
أقفُ تحت شجرة الدلب الباسقة، وفي يدي كوب الشاي. أرشفُ الشاي والبخار يعكّر نظارتي ويخفّف قليلًا برودتي الداخلية. يتصاعدُ دخانٌ كثيفٌ من المنقل الذي يحرق فيه البخور. المنقلُ وُضع وسْط الشارع أمام موكب العزاء الذي يقترب منّا. الدخان يتراكم ويشكّل غيومًا بيضاء تملأ الموكب الذي وصل إلينا. صوت الأناشيد الحسينية يعلو "حسين واحسيناه غريب يا غريباه شهيد واشهيدا".
أرى فجأة دماء تنحدرُ تحت أحذية الرجال الذين يضربون بالسلاسل فوق ظهورهم. يأتي شابٌ نحيفٌ طويلٌ ويمسك إحدى أرجل الخروف الذي تبتعد الحياة عن عينيه ويجرّ الجثة ويضعه جنب جدول الماء. تقع عينا الخروف المربوط بالقضبان الحديدية على الخروف المذبوح، فبدأ يرتجف.
يفصل الشاب بسكينه الحاد، عنقَ الخروف من جثّته ويقطع أرجله التي لا تزال تتحرّك.
ــ لايزال حيّا يا أخي. اصبر قليلًا كي يموت الحيوان. أرجوك لا تُدخل السكين في لحمه وهو يحرّك أرجله وجعًا.
لا يصلُ صوتي إليه. يدعو الله المنشد كي يحمي القائد من الأعداء. ثم يقرأ آية "أمّن يجيب المضطّر إذا دعاه ويكشف السوء" لشفاء الشاب الذي دهسته السيارة وهو الآن في الغيبوبة.
يربط الشاب جثّة الخروف العارية من الصوف بالكلاب ويعلّقه على القضبان الحديدية التي تمّ نصبها جنب الشارع حدادًا على الإمام حسين. يدبّ بخار اللحم الحيّ في شرايين الخروف المنقبضة من البرودة، ويجلس على أيدي المرتدين ملابس سوداء.
يُدخل الشاب يدَه في كرش الخروف، ويخرج أحشاءه ويرميها إلى جدول الماء الشفاف. تقتربُ فتاة دسّت ساقيها الممتلئتين في جزمة سوداء وتخاطبُ الشاب الجزار بصوتٍ صارخ:
ــ أعطني خصية الخروف.
ـــ خصية الخروف؟
ـــ أريدها لتقوية الشعر.
يبتسمُ الشاب بسخرية ويسألها: معك كيس؟