أجلس مع صديقتي في المقهى. هي من المرات القلائل التي أدخل فيها مقهىً كهذا. كان روّاده من الطبقات المتوسطة فما فوق، أما بالنسبة لأمثالي أنا الفقير المعدم الذي لا يملك من الدنيا إلاّ شبابه فكان دخولي إليه ترفاً لا ألجأ إليه سوى في أوقات اليأس أو الاضطرار كما هي حالي الآن.
فقد كنت أعمل في أحد النوادي الثقافية. كان عملي مزيجاً من وظائف عدة، فمرة أكون مسؤولاً عن الأفلام التي يعيرها النادي للجمعيات والمدارس والمراكز الثقافية، وأحياناً ينحصر باستقبال الزوار وإفادتهم عن نشاطات النادي، وفي المناسبات الكثيرة التي كان النادي يقيم أثناءها حفلات "كوكتيل" كان عملي يتمثّل باستقبال الشخصيات المدعوة وتأمين لقاءات لهم مع الإدارة أو مع الإعلاميين، وفي أحيان غير قليلة كنت أعمل في تصليح ما يمكن أن يكون قد تلف من زجاج أو أقفال للأبواب وما إلى ذلك.
كانت علاقتي ما تزال في مراحلها الأولى مع هذه الصديقة التي تنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية، ولستُ أدري لماذا اختارتني أنا بالذات لهذه العلاقة، ربما هو نوعٌ من التجديد، فأنا لا أستطيع أن أؤمّن لها إلاّ تجربة جديدة لم تعتدها، أو ربما نبع اهتمامها بي من كرمي وصراحتي ومن عدم اهتمامي بملابسها وسيارتها وأموالها وأساساً لامبالاتي بفقري، فشعَرَتْ بإغراء خوض مغامرة مع مَن قد يؤمّن لها مزيداً من الإثارة في أن تكتشف كيف تكون السعادة من دون المال.
كانت تحاول إقناعي بالذهاب معها في رحلة بحرية في يخت والدها، فأتهرّب بسبب الأجواء التي قد ترافق الرحلة، فضلاً عن أمزجة الأشخاص الذين قد أقابلهم على متن اليخت، خاصة أنني معتادٌ حفلات تنحصر في الجلوس على الصخور عند شاطئ البحر أو في الذهاب إلى البرية أو الجلوس تحت شجرة والتفتيش عن التاريخ في البقايا الميتة.
وفي غمرة الانغماس في أحاديث الحب والجنس والعلاقات والزواج، دخلت امرأة إلى المقهى من الباب المقابل لي. أخذت تنظر إليّ وتشير بيدها نحوي كمَن يريد بإلحاح شيئاً ما.
جلست إلى طاولة مقابلة لي. كانت تطلب من النادل المزيد والمزيد من المشروبات والطعام حتى اضطر لجلب طاولة أخرى وألصقها بطاولتها ليتسع المجال لوضع كميات إضافية ممّا تطلبه، وفي أثناء ذلك لم تكن لترفع نظرها عني وهي تهمس وتتحدث بأشياء مبهمة، لكنها مسموعة من جميع الرواد.
انتبهت صديقتي للأمر فسألتني عمّن تكون هذه المرأة وما الرابط الذي يجمعني بها. لم أكن قد رأيتها قبل ذلك على الإطلاق ولا أذكر أنني صادفت هذا الاهتمام من أحد لا أعرفه. استمرت طلبات المرأة واستمر حديثها المبهم وإشاراتها التي أزعجت صديقتي فأصرّت على معرفة مَن تكون هذه المرأة.
أكدت لها أنني لا أعرفها ولم أرها في حياتي، وطلبتُ منها أن نغيّر جلستنا لأتفادى تلك المرأة التي سلبت منّا أُنس جلستنا، فجلستُ في اتجاه معاكس لها تماماً، فما كان منها إلاّ أن أتت في ما يشبه الهجوم وهي تنشج وتقول بصوت سمعه معظم مَن في المقهى: "قل لي: يا ماما! أرجوك قل لي: يا ماما"! فبُهِتُّ من طلبها، ولم أجد جواباً، فاسترسلت في حديثها قائلة: "أنت تشبه ابناً لي مات في الحرب، أرجوك أن تذهب معي ليراك زوجي وأولادي. أرجوك!".
تمالكت نفسي وقلت لها: "هدئي من روعك، رحم الله ابنك، لكنني لا أعرفك".
كأنها لم تسمع جوابي وألحّت في طلبها أن أذهب معها إلى بيتها لتراني عائلتها. ولما يئست من تلبية طلبها، قالت لي بصوت رقيق يلفت الأسماع: "أرجوك قل لي يا ماما!".
فقلت بلهجة ساخرة دون تردد: "يا ماما، يا ماما"! بصوت عالٍ. فألقت المرأة قبلة وهي تبتعد ولوّحت بيدها باتجاهي خارجة من المقهى دامعة العينين كمَن يترك عزيزاً يراه للمرة الأخيرة.
دُهِشَت صديقتي ممّا حدث وحزنت لأمر المرأة الثكلى التي أضحكتنا حزناً عليها.
وأكثر ما شدّ انتباهنا هو جمالها الفاتن وزينتها وملابسها المثيرة التي لا تتناسب مطلقاً مع ما أتت به من تصرفات.
قررنا المغادرة فطلبت من النادل أن يأتيني بالفاتورة ففعل، وإذ بي أجد أن المبلغ المطلوب مني يتعدى بكثير ما طلبناه، بحيث أن كل ما أملكه لا يكفي لسداده، فأوضحت له أن ما طلبناه لا يزيد عن فنجاني قهوة وبوظة، فقال:
- صحيح، لكن هناك حساب الماما!
- أيّ ماما؟
- تلك المرأة التي ترتدي ثوباً أحمر وكانت تتحدث إليك، قالت لي عند خروجها إنك سوف تسدد ثمن ما طَلَبَتْ!
تنبّهت للمأزق الذي وقعت فيه، لكنني لم أشأ أن أدخل في عراك أنا في غنى عنه الآن، فطلبت رؤية صاحب المقهى، الذي اقترب مني، فبادرته قائلاً:
- لا أعرف تلك المرأة ولا علاقة لي بها..
لكن صاحب المقهى أصرّ أن أدفع حسابي وحسابها قائلاً: تلك المرأة قالت إنك ابنها وسوف تدفع عنها، وقد تأكدت من قولها بعدما رأيتكما تتحدثان معاً وقد سمعتك تخاطبها "يا ماما!".
ولمّا أصرّيت على عدم الدفع علا صوت صاحب المقهى مهدداً بطلب الشرطة، فقلت له:
- افعل ما بدا لك.
كان في المقهى عدد كبير من الرواد بينهم أحد الضباط الكبار، وقد سمع مثل الجميع ما يدور فاقترب مني مستوضحاً عمّا يحصل، فحدثته عن تلك المرأة التي اقتربت مني وهي تبكي وتطلب أن أقول لها يا ماما لأنني أشبه ابنها القتيل، فأشفقت عليها وناديتها: يا ماما، لكنني فوجئت بأن صاحب المقهى يريد مني أن أدفع ثمن ما طلبته بحجة أنني ابنها.. علماً أن جميع ما لديّ لا يصل إلى المبلغ المطلوب.
ربّت الضابط على كتفي قائلاً:
- لا عليك، فلن تدفع شيئاً، لكنني أريد منك أن تذهب معي إلى مركز الشرطة.
واتجه إلى صاحب المقهى طالباً منه إعفائي من الدفع على أن يدفع هو لاحقاً المبلغ المطلوب.
طلبت من صديقتي أن تذهب، على أن نلتقي في وقت لاحق، شرط ألاّ تحدّث أحداً بما حصل معنا في المقهى بناءً على طلب الضابط.
وبتهيّب شديد جلست إلى جانب الضابط في سيارته وانطلقنا. وصلنا إلى الثكنة حيث يعمل. فور دخولنا هدأت ضجة العسكر وأدى الجميع التحية له. دخلنا إحدى الغرف فوضع الضابط يده داخل خزانة صغيرة في الحائط فإذا بالغرفة تتحرك فظننت أن في الأمر هزّة أرضية وأصبت بالهلع وتمسكت بالمقعد الذي جلست عليه، فهدّأني قائلاً: لا تقلق، هذه الغرفة هي مصعد للأرشيف الخاص بالثكنة.
نزلت بنا الغرفة - المصعد مدة، حسبتها ساعات، كنت أرى من بابها الزجاجي أسقفاً باطونية متقاربة. توقف المصعد بنا فخرجنا مباشرة إلى فسحة كبيرة ثم دخلنا ممراً بالكاد نستطيع معاً المرور من خلاله يمتلئ على جانبيه بالرفوف المحمّلة بالأضابير والكتب والملفات، وكان الجوّ عابقاً برائحة غبار الكتب.
أجلسني الضابط إلى كرسي بجانب مكتب صغير في أحد المنفرجات بين الرفوف وغاب بعض الوقت ثم عاد ومعه أحد معاونيه وهما يحملان ملفات كبيرة. وضع الضابط الملفات أمامي مشدداً عليّ أن أتملّى في الوجوه جيداً وأن أتمهّل، حتى إذا وجدت ما قد يكون صورة لتلك المرأة أبلغته عنها.
كانت الملفات تحتوي صوراً لمشبوهين وسجناء وأصحاب سوابق: صور قديمة اختفت ملامح أصحابها، وفيها الكثير ممّا يدعو إلى العجب، فهنا صورة لكائن يشبه رجلاً أصلع على رأسه خصلة شعر منحنية إلى الأمام، وهنا صورة لآخر مجدوع الأنف يضع عصابة على إحدى عينيه ولحية كبيرة تبدو ككيس إسمنت فارغ يتدلّى من ذقنه، وتلك صورة لامرأة لا يبين من ملامحها سوى ما تضعه من طلاء يميل إلى الأزرق والأصفر حول عينيها الغائرتين وعلى شفتيها البارزتين جداً.
أخذت أقلّب الصفحات مستعرضاً الصور التي وُضِع تحت كل منها رقم معيّن، فأنتهي من ملف لأبدأ بآخر والضابط إلى جانبي يأخذ الملفات فيكتب عليها شيئاً ثم يسلّمها إلى معاونه.
- ها هي!
صرخت، فقد كان ما رأيته هو صورة تلك المرأة التي لن أنساها ما حييت.
اقترب الضابط ونظر إلى الصورة ثم قلبها إلى الخلف وأخذ يقرأ ما كُتب عليها.
- يا لطيف!
وضع الضابط يده على رأسه وهو يقول ذلك، وأردف:
- لا شك أنك ذو حظٍ عظيم. لقد نجوتَ من الموت!
دُهشت ولم أُجب، فأضاف الضابط:
- تلك المرأة عضو أساسي من عصابة عالمية تقوم ببيع الأعضاء البشرية، تلجأ لإغراء الشابات والشبان الصغار من أمثالك فيذهبون معها إلى أماكن معيّنة طمعاً بليلة ممتعة أو بحجة تأمين عمل لهم، فيتم تخديرهم ويُرسلون في برادات إلى حيث تؤخذ أجزاء من أجسادهم لمرضى أغنياء مستعدين لدفع الملايين في سبيل الحصول على ما يريدون: كلية، قلب، كبد، إلخ. وهذه المرأة تشكل الحلقة الأساسية في تلك الشبكة، وهي تغيّر شكلها باستمرار، فهذه هي المرّة الأولى التي تظهر فيها على هذه الصورة منذ سنوات ثلاث، ورغم محاولاتنا العديدة للقبض عليها كانت تختفي في كل مرة نظن أننا اقتربنا منها.
أصبت بالذهول ولفتُّ الضابط إلى أن ما قامت به المرأة يدل على غباء، فمن شبه المستحيل أن تستطيع إقناع مَن هو بمثل حالتي بالذهاب معها وخصوصاً أنني كنتُ برفقة فتاة أخرى، فلو أنها بذلك الذكاء لفتّشت عن شاب آخر يكون وحده، ما سيسهّل لها الأمر!
- صحيح، لكن ربما لم تجد شخصاً بمفرده أو أنك تحمل المواصفات التي أرادتها. الله يحبك ولا شك.
كتب الضابط شيئاً على ورقة ألصقها بالصورة وسلّمها إلى معاونه، وكتب رقم هاتف على ورقة وختمها من الأسفل بختم خاص وسلّمها إليّ وطلب مني أن أكتم ما حصل معي وأن أعيش حياتي بشكل طبيعي، وقال:
- إذا صادفتَ تلك المرأة، في أيّ مكان، أيّ مكان كان، اتصل بهذا الرقم، فإن لم تجد هاتفاً اذهب إلى أي مخفر للدرك أو ثكنة للجيش، وإن لم تجد فاستوقف أي رجل من الشرطة أو الجيش وأطلعه على الختم الموجود معك وحدّثه عن ضرورة القبض على هذه المرأة فسيتولى عندها الأمر. أكرر توصيتي لك بالكتمان تماماً، فإذا شعرت المرأة أنك قد أبلغتنا عمّا حصل معك نتيجة المراقبة التي سنقوم بها فلن يكون رد فعلها حميداً تجاهك. إنها مسألة مصير، انتبه!
ودّعت الضابط وانطلقت مصاباً بدوار نتيجة دخولي في هذه المغامرة التي لم أحسب لها حساباً.
مضت الأيام حتى كدت أنسى ما حدث لي وما عدت أتذكر تلك المرأة إلا حين أفتح محفظتي لسبب من الأسباب حيث تطالعني تلك الورقة.
في أحد مساءات الصيف القائظة كنت مع مجموعة من الأصدقاء على شاطئ البحر نجلس على مقعد الرصيف نشرب وندخن ونراقب المارّة ونتحدث في أمور شتى، وإذ بي ألمحها من بعيد في زحمة الناس تحمل مظلة تتقي بها حرّ الشمس التي كانت بدأت تميل نحو الغروب، كأني بها تحاول إخفاء نفسها عن الأعين، فألقيت ما في يديّ أرضاً وركضت باتجاهها.
فوجئ أصحابي ونادوني محاولين معرفة ما حدا بي إلى بما قمت به، فأومأت بيدي إشارة إلى أنني سأعود قريباً وأن الأمر ملحّ، وركضت مسرعاً بأقصى ما أستطيع. كانت المرأة سريعة جداً والزحمة شديدة بحيث أني كنت أصطدم أو أكاد بكل مَن أمر به وما إن أكاد أصل إليها حتى تختفي عن عيني لأجدها على بعد أمتار فأتجه نحوها بسرعة أكبر.
هدّني الركض خلف تلك المرأة التي كانت تختفي في الزحام وتظهر من جديد، إلى أن وصلتْ إلى مكان حيث تنعطف الطريق انعطافةً حادة فأخَذَت تركض باتجاه موقف للسيارات، فلحقت بها مسرعاً وقد تأكدت من أنني سأقبض عليها. دخلَتْ بين السيارات فلحقت بها.
كانت من الخفّة كابنة العشرين، فهي تدخل بين السيارات وتخرج بسرعة كهرّة تلاحق فأراً في خطوط متعرّجة. وصلتْ إلى مكان مقفل فكان لا بد لها من أن تغيّر اتجاهها، فالتفتت نحوي وأكملت سيرها المتعرّج، فصعدتُ إلى إحدى السيارات وقفزت باتجاهها.
* كاتب من لبنان