"الفوائد الباعثة على السفر لا تخلو من طلب أو هرب".
الغزالي، "إحياء علوم الدين"
جبال الأنديز في بيرو، خيامٌ بلاستيكية، نار مشتعلة، رحالة منقطعون عن أوطانهم، نفوس صافية، ملامح من مختلف بلدان العالم، فتاة بلجيكية فارعة الطول، تحتضن كوب قهوة، تطرح علينا هذا السؤال:
ما الفرق بين المسافر traveller والسائح tourist والرحالة Backpacker؟
وتنخرط "هيئة كبار الرحالة" في نقاش طويل، تسجله نجوم الأنديز، معلنةً عدم الوصول إلى نتيجة واضحة ومحددة. كل الرحالة يرفضون أن يكون نمط سفر الرحالة مشابهاً لنمط السائح الذي يسافر من أجل الحصول على بشرة برونزية، أو ذلك الذي يريد حقن حسابه في فيسبوك بصور سيلفي مع عجائب الدنيا. الكل سبق له أن طرح هذا السؤال على نفسه، لكن لا أحد منا يملك إجابة شافية.
لفتني الموضوع، لجأت إلى تراثنا الإسلامي، فوجدت الكثير من الحديث عن السفر وأحكامه وآدابه وأدبياته، والكثير من مذكرات الرحالة وأدب الرحلة، لكني لم أجد تقسيماً عصرياً واضحاً. وقد أفرد الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين فصلاً عن السفر، قسمه إلى أربعة أنواع: طلب العلم، والعبادة (كالحج)، وفرارٌ بالدين، والرزق أو المرض. ثم استعنت بالمدونين الأجانب المعروفين في عالم السفر، فوجدت لديهم بعض التأملات والمحاولات لصياغة الفكرة.
أكثر من مليار سائح
تطور العالم كثيراً خلال المئة سنة الماضية (من بعد الحرب العالمية الأولى)، وبدأت تنمو الكثير من المصطلحات والتقسيمات الجديدة في حقول الاقتصاد والسياسة والفكر. و"السفر" هو الآخر تغيّر مفهومه كثيراً عمّا كان سائداً، لكن المصطلحات ظلت جامدة.
أصبحت السياحة تشكل مصدر دخل اقتصادي للكثير من الدول (فرنسا تتصدر القائمة)، وأحياناً هي مصدر الدخل الأول لبعض الدول (مكاو وسيشل). وأحياناً تكون السياحة هي المصدر الوحيد للدخل (على الغالب في الجزر الصغيرة مثل البهامس وبريتش فيرجن آيلاند)، بل إن حضارات عريقة كانت تسود العالم تحوّلت إلى مدن سياحية أشبه بالمتاحف المفتوحة (مثل فينيسيا). من هنا، ولدت شركات الطيران والبواخر والمنتجعات والفندقة والسياحة، لتشكّل سوقاً عالمية ضخمة، وقد بلغ حجم سوق السياحة العالمي في 2015 مبلغ 7 تريليونات دولار وبلغ عدد السياح أكثر من مليار سائح.
أمام هذه التمدد في عالم صناعة السياحة، كان لزاماً علينا أن نواكب مثل هذا التطور في إعادة تعريف المصطلحات الأساسية، والتي لم تواكب هذه الصناعة، ولا يزال الناس يستخدمون المصطلحات القديمة بالرغم من تغير عالم السفر وفكرته عمّا في السابق، حيث لم يعرف العالم قبل مئة سنة فكرة السفر للراحة والاستجمام، وكان السفر يستلزم مشقة وتعباً وجهداً كبيراً، أما اليوم فقد تحول إلى وسيلة للراحة وتجربة الفنادق والمطاعم والمقاهي والتلذذ بحياة البذخ والرفاهية. (والفرق كبير بين آلة العذاب وآلة الدلال).
ويبقى لكل لغة طريقتها في توليد الكلمات الجديدة، واللغة الإنجليزية بصفتها لغة فقيرة بالمرادفات والصرف، لذا يصعب عليها اشتقاق كلمات جديدة، فيعمدون إلى دمج كلمتين في كلمة، لذا يدمجون كلمتي Backpacker في إشارة إلى الرحالة، بينما تجد لدى العربية مرونة أكثر في اشتقاق الكلمات أو نحتها.
تأمّلات في المفهوم
يمكننا القول إنّ السفر يدور حول أربعة مفاهيم أساسية، أوّلها هو المسافر، الذي ينتقل من مكان إلى آخر، بغض النظر عن النية أو الهدف. لذا كل من غادر بلاده فهو مسافر، وكل من ركب الطائرة أو الباخرة أو السيارة فهو مسافر. ومثل هذا لا يحتاج أكثر من تذكرة سفر وحجز فندق، وقد يزور البلد ولا يفعل فيه شيئاً، سوى زيارات لبعض المقاهي والأسواق، أو التمدد على الشواطئ.
ثاني المفاهيم هو السائح، الذي يسافر هارباً وطالباً، هارباً من روتين الحياة، وطالباً شيئاً جديداً في البلد الذي يزوره، لذا نراه يقوم بجولات سياحية لأهم المزارات والمتاحف والأماكن الشهيرة، يدلل نفسه قدر الإمكان في الفنادق والمطاعم، ثم يرجع إلى وطنه.
نرى أن السائح تعلم بعض الأشياء من ثقافة البلد الذي زاره، وحصل على لحظات جميلة وصور تذكارية. ونظراً إلى أن الغرب هو من قاد هذا النوع من السياحة (بلغ عدد السياح الأوروبيين نصف مليار سائح عام 2015 ويمثلون نصف سياح العالم)، فهم من يضعون طرقه وأساليبه وذوقه. وهم من يؤلّفون الكتب السياحية التي تقرر لنا أين نذهب وماذا نشاهد.
على سبيل المثال: أغلب الغربيين يعيشون في النصف الشمالي البارد من الأرض، لذا ابتدعوا سياحة التمدد تحت الشمس، ثم أصبحت السمرة التي تكتسبها جلودهم دلالة على الرفاهية والسفر.
ثالث هؤلاء هم الرحالة (أصلها رحال لكنها وضعت بصيغة المبالغة)، وهم الذين يسافرون بحثاً عن شيء، لديهم راية محددة شمروا لها. يعيشون حالة أشبه بالغربة المؤقتة وهم يتنازلون عن الكثير من أجل الوصول إلى هدفهم. وهذا الصنف ليس جديداً؛ إذ ظهر لدى العرب والأجانب العديد من النماذج اللامعة.
وفي بعض الفترات، اختلطت فكرة الرحالة بالجاسوسية أو البحث العلمي؛ لذا كانت تغلب عليهم الثقافة العالية. وشكلت كتاباتهم جسوراً ثقافية بين حضارات متباعدة أو متناحرة. وفي العصر الحديث، برزت تخصصات للرحالة، مثل الرحالة الرياضيين الذين يريدون صعود جبال أو أختراق أنهار، أو رحالة اجتماعيين، يستكشفون المجتمعات ويهتمون بواقعها ويحاولون فهمها.
أخيراً، الغربة، وهي السفر من أجل الرزق أو الدراسة أو الصحة، أو هرباً من حرب أو ظلم اجتماعي ما. وغالباً، تطول فترتها إلى ما يزيد عن سنة.
(الكويت)