أنا الآن في مشفى المدينة الرئيسي، في قسم العناية الحثيثة. أُحيي وأُميت. تماماً هذا ما أفعله الآن. الحالات الطارئة تصل إلينا بالعشرات. قال المرسوم بأن المرجعية الأخلاقية هي الفيصل الآن. الأمرٌ متروك لنا نحن الأطباء. علينا أن ننقل الأكسجين والأجهزة الأُخرى من فمٍ لآخر، بناء على المفاضلة. كل ما علينا فعله هو أن نفاضل. نهب الحياة لأحدهم، وننزعها من أحدهم. إنه أسوأ ما في الأمر. القيام بأعمال الإله، بقلبٍ بشري. أيّ أخلاق هنا، لا أدري.
بالأمس، نزعت الأنابيب عن طفلةٍ في العاشرة من عمرها، لصالح شاب في الأربعين، إنه أب لثلاثة أطفال ولديه زوجة. الطفلة تُعوّض، وعلى الأب أن يعود لرعاية أسرته ومدّهم بالرعاية اللازمة. هكذا فكّرت على وجه السّرعة. كانت عيناها خضراوين، وطافحتين بالدموع. توسّلتا إليَّ بصوتٍ هامس. صوت برغم ضآلته، إلّا أنه اخترق صدري. لكن العواطف يجب أن تُترَك جانباً في هكذا ظروف. قال المرسوم أيضاً.
لا أدري كيف سيؤول بي الحال بعد أن ينتهي كلُ شيء. لا بد أن أصبح عود ثقابٍ مُكربن. عشرات العيون المترقرقة تُحدّق بي الآن. إنها ملتصقة على الجدران من حولي. مثل بندول تتبعني أينما اتجهت. تسألني، بحسرة، لماذا نزعت ذلك الأنبوب؟ إنني متهالك، وأذوي.
أسوأ شيء، أنّ الأمر لا بدّ أن يتمّ في ظرف ثلاثين ثانية. في ثلاثين ثانية، فقط، عليك أن تُحيي وتميت. أُفكّر الآن، بأن عمل الإله في غاية الصعوبة. إنه عمل يفوق مقدرتنا كبشر. إننا واهنون أمام هذه القدرات. الجبّارة. المحطِّمة للنفس. القدرات الأخلاقية!
صفّارات الإسعاف تُدوّي بلا توقّف. الحالات الطارئة تصل تباعاً. مِن هذه الفتاة إلى هذا الشّاب. مِنْ هذا الرجل إلى تلك المرأة. مِنْ هذا إلى ذاك. في ظرف ثوان أقوم بعملياتٍ فلسفية عميقة، مستنبطات وجودية، لأصل منها، أخيراً، إلى القرار الأخلاقي. في كثير من الأحيان كنت أكتفي بالإشارة بيدي فقط. لا أقوى على الكلام. إنني مرهق يا الله. أصبحتُ روبوتاً مبرمَجاً. الآن فقط أدركت وجود العشرات من الروبوتات في مشافي المدينة. لا عواطف. ثلاثين ثانية. المدينة مقلوبة رأساً على عقب. الفيروس يفتك بها، له صوت مثل الهسهسة، بينما يأكل الجثث. على الأقل هكذا أسمعه أنا الآن.
اعتدت أن أستشير الطبيب المناوب معي. هكذا أشعر أنني أتخلّص من نصف العبء. في ظرف عشر ثوان يقدّم لي المشورة. الحزمٌ مطلوب جدّاً الآن. وأنا أفكر لعشرِ ثوان أخرى. وفي العشرة الباقية، نتّخذ القرار. ننزع ونثبّت من جديد. ثم نطوي الصفحة.
لم أنم منذ عدة أيام بشكلٍ جيد. الإضاءة الصغيرة الملونة تُومئ لي كما لو أنني في حلمٍ مستمر. طنين الأجهزة يدور في رأسي، بشكل لا يتوقّف. إززززززززز. أشعر أن ملايين النحلات في رأسي. نحلات على هيئة عيون.
فركت عينَيًّ وخبطت رأسي بيدي عدّة مرات. أردت فقط أن أتبيّن إن كنت أرى بشكلٍ جيّد أم لا، لأنني الآن في ظرفٍ ملائم جدّاً للهواجس والتخيّلات. حتى أنني أشعر أن الأمر برمته ما هو إلا كابوس. إضافة إلى أن أسراب النحلات لا تتوقّف عن ذبذبة أجنحتها في رأسي. طنين حاد متقطع، يترافق مع ومضات الإضاءات الصغيرة. إنها أمي. العجوز التي ترقد أمامي خلف قناع الأكسجين. عيناها، من خلف غلالة الدموع، تُحدقان بي بصمتٍ رهيب. إنني أسمعها الآن وهي تحاول أن تُبرّر الأمر، تحاول أن تقول بأنها لا تدري كيف جاء إليها الفيروس، إنها تلوم نفسها لأنها ربما لم تأخذ نصائحي، على ما يبدو، على وجه الدقّة. وفي الأثناء، تريد أن تقول أيضاً، بتلك الابتسامة في عينيها، إنها فخورة جدّاً بي على هذا الحال.
الممرّضة التي لا تدرك أي شيء عنها، تقول بأن عليّ أن أتّخذ القرار الآن. ثلاثين ثانية. وهي تقف متأهّبة للنزع والتركيب. إنها روبوت آخر. الطبيب المناوب، مقدّم الاستشارات يأتي من هناك على عجل، بضع خطوات ويكون إلى جانبي. لا أدري لماذا يُسرع هذه المرّة. شعرت أن الضباب بدأ يملأ الأرجاء من حولي. ضباب أو دخان لم أجزم. كل ما داهمني تلك اللحظة هو شعور مباغت بالإعياء ونفاد الهواء. أردت أن أشير بيدي إليه لكي لا يأتي. أن أقول له لا عليك، ابقَ هناك. ثم أجلس إلى حافةِ السرير. إلى جوارها قليلاً. أن أشدّ على يدها المُجعّدة الناعمة أو أقبّلها على جبينها برفق. ردعتني الممرّضة، لا يجوز دكتور. ثم نبهتني، مرّةً أُخرى، بصوتها الجاف والحازم، إلى ضرورة اتخاذ القرار، لأن المريض الآخر ينتظر، إنها أنثى، تسعل بشكلٍ مستمر. وتختنق. اتكأتُ على حافة السّرير، إنني مرهق جدّاً. الإنارة فوق رأسي كما لو أنها شمس الظهيرة اللاهبة. إنني أختنق وأشعر بالحرارة. شابة في الثلاثين. تقول الممرضة، وهي تقرأ في ملفها، إنها أمّ لطفلتين. أمّ لطفلتين، تُكرّر ذلك على مسمعي. الجملة تدور في رأسي مثل ناعورة. ومثل مسنّنات المفرمة الحادة، تُمزّق أحشائي. الطبيب الآخر، يصل إلي. يُلقي نظرة سريعة. لما التّردد، المشهد واضح. يقول ويربت على ظهري.
* كاتب من الأردن