24 أكتوبر 2024
المصداقية ضد السياسة في العالم العربي
منذ عقود، افتقدت السياسة في العالم العربي إلى المصداقية، فالانفصام بين الخطاب السياسي والممارسة السياسية جلي إلى درجة الفضيحة، وكلما كبرت الشعارات كانت أكثر انفصالا عن الواقع، وبعيدة عن حياة الناس وهمومهم اليومية. ولعدم وجود مؤسسات رقابية على الأداء السياسي العربي وعدم إمكانية محاسبة الحاكم العربي في مؤسسات منتخبة ديمقراطيا، أياً كانت طبيعة نظامه السياسي، فإن هذه السياسة تتحول إلى خطاب منزّل من الأعلى، في غياب إعلام حر يراقب وينتقد هذه السياسة وصانعيها، وفي ظل مؤسسات "تشريعية" هي صنيعة من عليها مراقبته، فاقدة استقلالها، تعاني من تبعية مطلقة للسلطة التنفيذية، وبالأصح بالتبعية للرجل الأول، وفي غياب مؤسسات مجتمع مدني قادر على صناعة حيز مستقل عن عسف السلطة. ذلك كله يجعل من الخطاب السياسي في العالم العربي ممارسةً باتجاه واحد، من الأعلى إلى الأسفل، ليس للتكوينات الاجتماعية وتنظيماتها السياسية المعاقة أي تأثير على القرار السياسي.
في هذا الحقل السياسي ذي الاتجاه الواحد، شكّلت الذرائعية ركيزة العقل السياسي العربي في مساراته المتعددة، للبحث عن مخارج لاستعصاء الواقع. وهذه الركيزة تدعم هذا الاستعصاء أكثر ما تساهم في فكفكته، فهي تنتج الكلام، ولا شيء غير الكلام. وفي الواقع، تنتج واقعاً أسوأ من الذي تسعى إلى معالجته. ما أدخل الحلول المقترحة، المرة بعد الأخرى، في دائرة المستحيل، وجعل طموح الوصول إلى الواقع السابق الذي عالجته هذه السياسة تمنياتٍ حالمة.
شكلت السياسات التي تنطلق من الرغبات، وليس من الواقع، وصفة للفشل، فلا يمكن تغيير الواقع إلا بالكشف عن مشكلاته الحقيقية، وتمفصل هذه المشكلات، لإيجاد مخارج وحلول لها، على قاعدة أن معرفة الواقع هي الشرط الأول للتأثير فيه. ولأن صانعي السياسة العرب لا يرون الواقع أصلاً، والسياسة رغباتٌ تملى على واقع لا يحتملها بكل أدوات القوة، اعتقد صانع القرار أنه يستطيع إنتاج الواقع الذي يرغبه بقرار وبأدوات تنفيذ قهرية. لذلك، ليس من الغريب أن آليات العقل السياسي العربي عملت بطريقة معاكسة لآليات صناعة القرار السياسي. حيث تمثلت السياسة، قبل كل شيء، في رغبات القيادة السياسية، وافترضت أن عظمتها، بوصفها قيادة، تفتح إمكانية تحوّل هذه الرغبات إلى وقائع، بمجرد إشارة من يدها. ومهما كانت النتائج كارثيةً لهذه السياسة، فإنها لم تطرحها في خطابها السياسي، بوصفها سياسات فاشلة قابلة للمراجعة، إنما طرحتها بوصفها استنتاجاتٍ تم استخلاصها بعبقريةٍ من خلال التحليل الدقيق للواقع الموضوعي. وهذه العبقرية هي التي أنتجت الحلول المبدعة، وأوصلت إلى انتصارات بينة، على الرغم من أن هذه الانتصارات هي الهزائم بعينها. وحتى يظهر الخطاب السياسي بالمظهر الانتصاري، لا بد من استناده إلى ذرائع تستدعي الدوغما، من أجل دمج الرغبات والمصالح الذاتية في سياق خطاب سياسي، اعتقد القادة أنه مؤثر في الجمهور، ما جعل الكذب وتزييف الحقائق وتصوير انتصارات وهمية مهمة القائد السياسي، وتكرار حاشية صانع القرار هذه الانتصارات الوهمية على مسامعه، وفي إطار ترويج سياسته، يصبح من المستحيل على العبقري الذي حقق كل هذه الانتصارات أن يقتنع بغير الصورة الزائفة التي صنعها لنفسه مع حاشيته، والتي لا تقنع أحداً غيرهم. وليس أدل على ذلك من الحديث العربي المستمر عن الانتصارات والإنجازات، في وقتٍ تتردى كل واحدةٍ من زوايا هذا الوطن العربي الكبير، في وقتٍ عملت هذه السياسات على تفخيخ المجتمعات العربية بعبوات انفجارية، لم تلبث أن انفجرت ثوراتٍ، انطلاقا من تونس، ولحقتها مصر وليبيا واليمن وسورية.
لم يقتصر افتقاد الخطاب السياسي المصداقية على السلطات الاستبدادية فحسب، بل أصاب هذا المرض المعارضة أيضا، التي ظهرت بوصفها مستكينةً لواقع استمرار هذه السلطات الاستبدادية إلى الأبد. ومع انفجار الثورات العربية، تبين أن هذه المعارضات تفتقد المصداقية في أوساط شعوبها، أو هي مصنوعةٌ من العجينة نفسها المصنوع منها النظام الذي يعارضونه، خصوصا أن كثيرين منهم خرجوا من بطانة الأنظمة نفسها التي خدموها حتى لحظة انطلاق الثورات في بلدانها، بعد ذلك، تصدّرت المعارضة. وبالتأكيد، لم تتغير طبيعتها بين ليلة وضحاها، وهو من الأسباب التي جعلت هذه الثورات تدفع ثمنا غاليا، وتتحول ثورات معاقة.
لا يشذ دعاةٌ للديمقراطية والحرية عن هذه القاعدة، ومن مفارقة هؤلاء أن كثيرين من قادة أحزاب يقبعون في قيادتها منذ عقود، ويريد الواحد منهم أن يقنعنا أنه نموذج للديمقراطية المطلوبة في هذا الوطن العربي الحزين. لذلك، ليس صعباً إدراك أن داعية الحرية والديمقراطية هو الأكثر تخلفاً من زاوية تطبيق ما يدّعيه، فهو داعية لحريته، وليس لحرية الآخرين، وهو ديمقراطي لكي يصل إلى فرض وجهة نظره على الآخرين، وهو مع حرية
التعبير عن الرأي التي تعادل قمع الرأي الآخر. أي أن كل الشعارات تقرأ من موقع ذاتي، وهو الذي يحكم الممارسة الفعلية لهذا الطرح الذي يبدو منطقياً. وبذلك، تصبح السياسة اجترار لعب ممجوج.
لا يتمثل هذا على صعيد الأفراد فحسب، بل على صعيد الأحزاب أيضاً، ما يجعل الظاهرة شاملة. لذلك، يمكن القول إنه لا معنى للمقولات النظرية، إذا لم تكن ناظمة لعلاقات الممارسة، ومُمأسسة بمؤسساتٍ قادرة على إعادة إنتاج نفسها بآليات شفافة وديمقراطية، وتضخ دائماً دماء جديدة إلى ساحة العمل السياسي. وفي السياق العربي، فإن الممارسة المتخلفة تكون أكثر تعبيراً عن الواقع الفعلي من المركب الادعائي للشعار المنطقي، بحيث تبدو الممارسة أكثر تطابقاً مع الواقع وقيم المجتمع السائدة، وتكون متماشيةً معه، في وقتٍ تتماشى الادعاءات مع الموضة القائمة أو للدفاع عن مصالح تتطلب هذا الادعاء. وفي جميع الحالات، وفي ظل الخراب الكامل، وفقدان ساحات سياسية جدية في العالم العربي، يصبح الوضع كارثياً، والسياسة التي تؤثر في تحول مجتمعاتٍ، لا تعدو، في عالمنا، كونها كلاماً فحسب، من أجل ملء فراغ الوقت الذي تقطعه بلادنا بمزيدٍ من الدمار والخسائر، وتبديد المستقبل.
في هذا الحقل السياسي ذي الاتجاه الواحد، شكّلت الذرائعية ركيزة العقل السياسي العربي في مساراته المتعددة، للبحث عن مخارج لاستعصاء الواقع. وهذه الركيزة تدعم هذا الاستعصاء أكثر ما تساهم في فكفكته، فهي تنتج الكلام، ولا شيء غير الكلام. وفي الواقع، تنتج واقعاً أسوأ من الذي تسعى إلى معالجته. ما أدخل الحلول المقترحة، المرة بعد الأخرى، في دائرة المستحيل، وجعل طموح الوصول إلى الواقع السابق الذي عالجته هذه السياسة تمنياتٍ حالمة.
شكلت السياسات التي تنطلق من الرغبات، وليس من الواقع، وصفة للفشل، فلا يمكن تغيير الواقع إلا بالكشف عن مشكلاته الحقيقية، وتمفصل هذه المشكلات، لإيجاد مخارج وحلول لها، على قاعدة أن معرفة الواقع هي الشرط الأول للتأثير فيه. ولأن صانعي السياسة العرب لا يرون الواقع أصلاً، والسياسة رغباتٌ تملى على واقع لا يحتملها بكل أدوات القوة، اعتقد صانع القرار أنه يستطيع إنتاج الواقع الذي يرغبه بقرار وبأدوات تنفيذ قهرية. لذلك، ليس من الغريب أن آليات العقل السياسي العربي عملت بطريقة معاكسة لآليات صناعة القرار السياسي. حيث تمثلت السياسة، قبل كل شيء، في رغبات القيادة السياسية، وافترضت أن عظمتها، بوصفها قيادة، تفتح إمكانية تحوّل هذه الرغبات إلى وقائع، بمجرد إشارة من يدها. ومهما كانت النتائج كارثيةً لهذه السياسة، فإنها لم تطرحها في خطابها السياسي، بوصفها سياسات فاشلة قابلة للمراجعة، إنما طرحتها بوصفها استنتاجاتٍ تم استخلاصها بعبقريةٍ من خلال التحليل الدقيق للواقع الموضوعي. وهذه العبقرية هي التي أنتجت الحلول المبدعة، وأوصلت إلى انتصارات بينة، على الرغم من أن هذه الانتصارات هي الهزائم بعينها. وحتى يظهر الخطاب السياسي بالمظهر الانتصاري، لا بد من استناده إلى ذرائع تستدعي الدوغما، من أجل دمج الرغبات والمصالح الذاتية في سياق خطاب سياسي، اعتقد القادة أنه مؤثر في الجمهور، ما جعل الكذب وتزييف الحقائق وتصوير انتصارات وهمية مهمة القائد السياسي، وتكرار حاشية صانع القرار هذه الانتصارات الوهمية على مسامعه، وفي إطار ترويج سياسته، يصبح من المستحيل على العبقري الذي حقق كل هذه الانتصارات أن يقتنع بغير الصورة الزائفة التي صنعها لنفسه مع حاشيته، والتي لا تقنع أحداً غيرهم. وليس أدل على ذلك من الحديث العربي المستمر عن الانتصارات والإنجازات، في وقتٍ تتردى كل واحدةٍ من زوايا هذا الوطن العربي الكبير، في وقتٍ عملت هذه السياسات على تفخيخ المجتمعات العربية بعبوات انفجارية، لم تلبث أن انفجرت ثوراتٍ، انطلاقا من تونس، ولحقتها مصر وليبيا واليمن وسورية.
لم يقتصر افتقاد الخطاب السياسي المصداقية على السلطات الاستبدادية فحسب، بل أصاب هذا المرض المعارضة أيضا، التي ظهرت بوصفها مستكينةً لواقع استمرار هذه السلطات الاستبدادية إلى الأبد. ومع انفجار الثورات العربية، تبين أن هذه المعارضات تفتقد المصداقية في أوساط شعوبها، أو هي مصنوعةٌ من العجينة نفسها المصنوع منها النظام الذي يعارضونه، خصوصا أن كثيرين منهم خرجوا من بطانة الأنظمة نفسها التي خدموها حتى لحظة انطلاق الثورات في بلدانها، بعد ذلك، تصدّرت المعارضة. وبالتأكيد، لم تتغير طبيعتها بين ليلة وضحاها، وهو من الأسباب التي جعلت هذه الثورات تدفع ثمنا غاليا، وتتحول ثورات معاقة.
لا يشذ دعاةٌ للديمقراطية والحرية عن هذه القاعدة، ومن مفارقة هؤلاء أن كثيرين من قادة أحزاب يقبعون في قيادتها منذ عقود، ويريد الواحد منهم أن يقنعنا أنه نموذج للديمقراطية المطلوبة في هذا الوطن العربي الحزين. لذلك، ليس صعباً إدراك أن داعية الحرية والديمقراطية هو الأكثر تخلفاً من زاوية تطبيق ما يدّعيه، فهو داعية لحريته، وليس لحرية الآخرين، وهو ديمقراطي لكي يصل إلى فرض وجهة نظره على الآخرين، وهو مع حرية
لا يتمثل هذا على صعيد الأفراد فحسب، بل على صعيد الأحزاب أيضاً، ما يجعل الظاهرة شاملة. لذلك، يمكن القول إنه لا معنى للمقولات النظرية، إذا لم تكن ناظمة لعلاقات الممارسة، ومُمأسسة بمؤسساتٍ قادرة على إعادة إنتاج نفسها بآليات شفافة وديمقراطية، وتضخ دائماً دماء جديدة إلى ساحة العمل السياسي. وفي السياق العربي، فإن الممارسة المتخلفة تكون أكثر تعبيراً عن الواقع الفعلي من المركب الادعائي للشعار المنطقي، بحيث تبدو الممارسة أكثر تطابقاً مع الواقع وقيم المجتمع السائدة، وتكون متماشيةً معه، في وقتٍ تتماشى الادعاءات مع الموضة القائمة أو للدفاع عن مصالح تتطلب هذا الادعاء. وفي جميع الحالات، وفي ظل الخراب الكامل، وفقدان ساحات سياسية جدية في العالم العربي، يصبح الوضع كارثياً، والسياسة التي تؤثر في تحول مجتمعاتٍ، لا تعدو، في عالمنا، كونها كلاماً فحسب، من أجل ملء فراغ الوقت الذي تقطعه بلادنا بمزيدٍ من الدمار والخسائر، وتبديد المستقبل.