04 يناير 2022
المعجم السياسي في تونس بعد الثورة
كان المعجم السياسي في تونس قبل الثورة متكلّسا بقهر الاستبداد، فلا تُستعمل إلّا مصطلحات معدودة، ضبط المستبدّ دلالتها وسياق استعمالها. ومنها "التغيير"، و"التحوّل"، و"دولة القانون والمؤسّساتِ"، و"المواطنة"، و"الانتخاب". وظلّت المعارضة أيضا محكومة باستعمال مصطلحات فرضتها مغالبة الاستبداد، وهي تدور في جملتها حول المطالبة بالديمقراطيّة، فيتكرّر استعمال "العفو التشريعيّ العامّ"، والحرّيّات"، و"تداول السلطة"...
ثمّ شاعت، بعد الثورة، مصطلحات سياسيّة كثيرة، تعبّر عن جدل الأفكار السياسيّة، وعن ثقافة سياسيّة يوميّة أصبحت مشتركة بين جمهور عريض جدّا من التونسيّين، وإن لم يستوِ الناس في فهمها وتحقيقها وحسن استخدامها، منها: الانتقال الديمقراطيّ، والمواطنة، والتدافع.
فالانتقال الديمقراطي أحد أكثر المصطلحات استعمالا، ذاع في الخطاب السياسيّ والتداول اليوميّ بعد الثورة. ويمكن تلخيص معناه في الاستعمال بمحاولة نقل تونس من نظام الاستبداد المطلق إلى دولة مدنيّة تقوم على مفهوم المواطنة، ويحكمها دستورٌ يؤسّس لحياة ديمقراطيّة في تداول السلطة وتثبيت الحرّيّات واحترام حقوق الإنسان. وفي تونس بعد الثورة خلافٌ سياسيّ مزمن، وتحريضٌ إيديولوجيّ حادٌّ، وتفجيراتٌ إرهابيّة، وأزمةٌ اقتصاديّة، وتأثيرٌ خارجيّ، إلّا أنّ هذا كلّه فشل في شقّ الوحدة الوطنيّة. وظلّت تدوينات أكثر المواطنين في "فيسبوك" معبّرةً عن ضرورة حماية وحدة الوطن والشعب. وساهم هذا الرأي العامُّ والشعورُ الشعبيّ المشترك في منع غلبة خطاب الانقسام، حتّى عندما انحرفت قيادات سياسيّة إلى التحريض الإعلاميّ العنيف. وقد ساعد على انتصار خطاب الوحدة تميّزُ المجتمع التونسيّ بقدر كبير من الانسجام، إذ ليس فيه انقسامٌ طائفيّ حادّ، ولا إثني عميق.
إلّا أنّه لا يمكن الحديث عن انتقال ديمقراطيّ بالفعل، فالخصومة السياسيّة مستمرّة. وتدلّ ملاحظة المشهد السياسيّ التونسيّ على انقسامه بقدر تركيبه وتعقيده، فهو مكوّن من الإسلاميّين، وبقايا
البورقيبيّين، والتجمّعيّين (بن علي)، واليسار، وما تسمّى الأحزاب الديمقراطيّة الاجتماعيّة (اليسار الاجتماعيّ)، والقوميّين، ومراكز النفوذ الاقتصاديّ، واللوبيات التي لها صلة قويّة بمافيا السياسة والاقتصاد. وهذا كلّه وصف مجمل لواقع تشقّه انقسامات بين الإسلاميّين والعلمانيّين؛ وبين أحزابِ المنظومة القديمة والأحزابِ المنتسبة إلى الثورة؛ وبين أحزابٍ وصلت إلى الحكم بالانتخاب ولوبياتٍ تسيطر على الاقتصاد والسلطة؛ وبين نخبةٍ ترفع شعار التغيير وخدمة الشعب وهي تبحث عن مصالحها الماديّة والرمزيّة، وأغلبيّةٍ شعبيّة تطلب التغيير ولا تملك أدواته. ويُتداول في هذا المشهد المركّب خطابٌ سياسيٌّ من أهمّ مفرداته الإقصاء والتنافي والشكّ والرِّيبة، ويصل عند أحزابٍ إلى تمجيد الاستبداد وإنكار الثورة. وتسود ممارسة سياسيّة يغلب عليها الحذر وفقدان الثقة (كما جرى في مفاوضات تشكيل الحكومة مثلا). وتملأ أخبارُ الفساد الماليّ والسياسيّ صفحات "فيسبوك"، وكثيرا ما تكون مؤيّدة بالوثائق. وتستفحلُ الجريمة، ولا سيّما قطع الطريق (براكاج) في وضح النهار. وخلاصة هذا المشهد أحزابٌ تتناهش إعلاميّا، وتتنافس في المناكفة السياسيّة (الموقف من الملفّ الليبي مثلا)، وتتّخذ من مجلس النوّاب ميدانا للاستعراض الإيديولوجيّ البائس؛ وحكومةٌ تكتفي بالحدّ الأدنى من تصريف الأعمال إلى حين تنصيب حكومة جديدة؛ وشعبٌ منقسم، أرجعته الأحزاب إلى خنادق الإيديولوجيا، فهو يخوض معاركه الهامشيّة في "فيسبوك"، ويطحنه الغلاء والجريمة. وأمّا الانتقال الديمقراطيّ فلم يقع في أذهان سياسيّين كثيرين ووجدانهم، ولم يتحقّق تامّا في التجربة.
ويُستعمل مصطلح المواطنة استعمالا واسعا، ولكنّه لا يترجم وعيا عامّا بدلالته، فالمواطنة، بمعناها الشائع، علاقة حقوقيّة بين المواطن والسلطة وبينه وبين سائر المواطنين. وقد كانت هذه العلاقة الحقوقيّة موصوفةً بالنصّ، موقوفةً بالقمع قبل الثورة. ثمّ سقط نظام الاستبداد، وأُطلقت الحرّيّات، وأُقرّت مدنيّة الدولة والحقوق والواجبات، وانتظم تونسيّون كثيرون في العمل الحزبيّ، ونشاط الجمعيّات المدنيّة. وساهم الإعلام، ولا سيّما الرقميّ الحرّ، مساهمة قويّة في صناعة وعي المواطنة. وأصبحت المواطنة تتشكّل في وعي الناس بأبعادها الثلاثة: الحقوقيّ والسياسيّ والاجتماعيّ، فتكون قاعدتها حقوقيّةً يستوي فيها المواطنون، فلا يُستبعد أحد، ولا يُمنع من المشاركة في الحياة العامّة. ويكون مجالها العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة، العموديّة والأفقيّة، فلا يتوقّف إثباتها على الدستور والقانون فقط، بل تكتسب حياتها وتجدّدها من النشاط الاجتماعيّ والسياسيّ الذي يَعْبر الهويّاتِ الخاصّةَ من غير أن يقع فيها. ويكون أُفُقها مفتوحا، فتتطوّر بتطوّر التجربة السياسيّة الجماعيّة، فالمواطنة لا تتكوّن في الدساتير ودفاتر القوانين، وإنّما تُخَلَّق في العمل الحقوقيّ والنشاط السياسيّ والعلاقات الاجتماعيّة؛ ولا يؤسّسها الدين والمذهب والهويّة الخاصّة، بل يؤسّسها القانون المدنيّ؛ ولا يحفظها الدستور، بل تحفظها الممارسة المدنيّة الحرّة النامية.
إلّا أنّ كثرة تداول مصطلح المواطنة لا يلغي الهويّات الجزئيّة، بل إنّ المجتمع ازداد انقساما،
وتراكبت فيه طبقاتٌ من الهويّات والانتماءات الجزئيّة (الطائفيّة مثلا)، وأصبحت تتّخذ مفاهيمَ الدولة المدنيّة مداخلَ إلى التشريع لوجودها. فيستدلّ الشيعة في تونس مثلا بالمواطنة وحرّيّة الاعتقاد والدولة المدنيّة، على شرعيّة وجودهم مذهبا خاصّا يحفظه القانون والدستور، فينتهون إلى الوقوع في الطائفيّة الخالصة. ويتشبّث أنصار المنظومة القديمة بأنّهم مواطنون أحرار في التعبير عن آرائهم، ثمّ يمجّدون الاستبداد في مجلس النوّاب، ويتبرّأون من الثورة، ويرفضون تلاوة الفاتحة على أرواح شهدائها.
وأمّا التدافع فلم يكن مصطلحا سياسيّا مستعملا قبل الثورة، وأوّل من استعمله بعدها زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، إلّا أنّه لم يشرحه. وأصل المصطلح قرآنيّ (الآية 40 من سورة الحجّ). ولكلمة الدفع/ الدفاع التي وردت في الآية معنيان في كلام المفسّرين، أضيقهما تفسيرها بالصراع بين الإسلام والكفر، وأعمّهما تفسيرها بصراع الخير والشرّ. ولعلّ محمّد حسين الطباطبائي (ت 1981) هو أحسن من عبّر عن هذا المعنى في قوله: "المراد بدفع الله الناس بعضهم ببعض أعمَّ من القتال. فإنّ دفعَ بعض الناس بعضاً، ذبّاً عن منافع الحياة وحفظاً لاستقامة حال العيش، سنّةٌ فطريّة جارية بين الناس. والسننُ الفطريّة منتهية إليه تعالى. ويشهد به تجهيزُ الإِنسان كسائر الموجودات بأدوات وقوى تسهّل له البطش، ثمّ بالفكر الذي يهديه إلى اتخاذ وسائل الدفع والدفاع عن نفسه، أو أيّ شأن من شؤون نفسه ممّا تتمّ به حياته، وتتوقّف عليه سعادته". والتدافع عند الغنّوشي متّصل بهذا الفهم، ولا يُراد به الاقتتال والصراع وتبريرهما. فهو إذن مقتبِسٌ لا مؤسِّس. إلّا أنّ خصوم "النهضة" المنهمكين في الصراع الإيديولوجيّ تعلّقوا بالمعنى الأوّل، وما انفكّوا يردّدون أنّ الغنّوشي يشرّع للاقتتال والسيطرة على المجتمع، فانحرف الخلاف من مناقشةِ مصطلح التدافع وتثبيتِه قانونا اجتماعيّا، وتخصيصِ معناه بالجدل الفكريّ والصراع المدنيّ، إلى إلقاء التهم، والوقوع في المهاترات الإيديولوجيّة العقِيمِ.
ويبدو من هذه المصطلحات الثلاثة (ومن غيرها كالتوافق، والحرّيّة، والدستور...) أنّ المعجم السياسيّ التونسيّ بعد الثورة يعبّر عن تنوّعٍ في الملفوظ، ولا يعكس تحقّقا للمعنى في الواقع، ولا استقرارا للدلالة في التجربة. ويتميّز بتجاور المتناقضات، فالديمقراطيّةُ في الشعار تجاور الاستبداد في الخطّة، والانتقالُ الديمقراطيّ في الملفوظ يجاور العمل على إفشال الثورة في الممارسة السياسيّة، والمواطنةُ في الخطاب تؤدّي إلى تثبيت الطائفيّة في الضمير والقصد. وسائر مفردات هذا المعجم، تجاور، في غير حرج، مفردات الاستبداد عند رؤساء أحزاب ونوّاب منتخبين. والطريق إلى تغيير الإنسان وتبديل الثقافة، سيّما في الحكومات الرخوة، أطول من الطريق إلى تغيير النظام السياسيّ.
فالانتقال الديمقراطي أحد أكثر المصطلحات استعمالا، ذاع في الخطاب السياسيّ والتداول اليوميّ بعد الثورة. ويمكن تلخيص معناه في الاستعمال بمحاولة نقل تونس من نظام الاستبداد المطلق إلى دولة مدنيّة تقوم على مفهوم المواطنة، ويحكمها دستورٌ يؤسّس لحياة ديمقراطيّة في تداول السلطة وتثبيت الحرّيّات واحترام حقوق الإنسان. وفي تونس بعد الثورة خلافٌ سياسيّ مزمن، وتحريضٌ إيديولوجيّ حادٌّ، وتفجيراتٌ إرهابيّة، وأزمةٌ اقتصاديّة، وتأثيرٌ خارجيّ، إلّا أنّ هذا كلّه فشل في شقّ الوحدة الوطنيّة. وظلّت تدوينات أكثر المواطنين في "فيسبوك" معبّرةً عن ضرورة حماية وحدة الوطن والشعب. وساهم هذا الرأي العامُّ والشعورُ الشعبيّ المشترك في منع غلبة خطاب الانقسام، حتّى عندما انحرفت قيادات سياسيّة إلى التحريض الإعلاميّ العنيف. وقد ساعد على انتصار خطاب الوحدة تميّزُ المجتمع التونسيّ بقدر كبير من الانسجام، إذ ليس فيه انقسامٌ طائفيّ حادّ، ولا إثني عميق.
إلّا أنّه لا يمكن الحديث عن انتقال ديمقراطيّ بالفعل، فالخصومة السياسيّة مستمرّة. وتدلّ ملاحظة المشهد السياسيّ التونسيّ على انقسامه بقدر تركيبه وتعقيده، فهو مكوّن من الإسلاميّين، وبقايا
ويُستعمل مصطلح المواطنة استعمالا واسعا، ولكنّه لا يترجم وعيا عامّا بدلالته، فالمواطنة، بمعناها الشائع، علاقة حقوقيّة بين المواطن والسلطة وبينه وبين سائر المواطنين. وقد كانت هذه العلاقة الحقوقيّة موصوفةً بالنصّ، موقوفةً بالقمع قبل الثورة. ثمّ سقط نظام الاستبداد، وأُطلقت الحرّيّات، وأُقرّت مدنيّة الدولة والحقوق والواجبات، وانتظم تونسيّون كثيرون في العمل الحزبيّ، ونشاط الجمعيّات المدنيّة. وساهم الإعلام، ولا سيّما الرقميّ الحرّ، مساهمة قويّة في صناعة وعي المواطنة. وأصبحت المواطنة تتشكّل في وعي الناس بأبعادها الثلاثة: الحقوقيّ والسياسيّ والاجتماعيّ، فتكون قاعدتها حقوقيّةً يستوي فيها المواطنون، فلا يُستبعد أحد، ولا يُمنع من المشاركة في الحياة العامّة. ويكون مجالها العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة، العموديّة والأفقيّة، فلا يتوقّف إثباتها على الدستور والقانون فقط، بل تكتسب حياتها وتجدّدها من النشاط الاجتماعيّ والسياسيّ الذي يَعْبر الهويّاتِ الخاصّةَ من غير أن يقع فيها. ويكون أُفُقها مفتوحا، فتتطوّر بتطوّر التجربة السياسيّة الجماعيّة، فالمواطنة لا تتكوّن في الدساتير ودفاتر القوانين، وإنّما تُخَلَّق في العمل الحقوقيّ والنشاط السياسيّ والعلاقات الاجتماعيّة؛ ولا يؤسّسها الدين والمذهب والهويّة الخاصّة، بل يؤسّسها القانون المدنيّ؛ ولا يحفظها الدستور، بل تحفظها الممارسة المدنيّة الحرّة النامية.
إلّا أنّ كثرة تداول مصطلح المواطنة لا يلغي الهويّات الجزئيّة، بل إنّ المجتمع ازداد انقساما،
وأمّا التدافع فلم يكن مصطلحا سياسيّا مستعملا قبل الثورة، وأوّل من استعمله بعدها زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، إلّا أنّه لم يشرحه. وأصل المصطلح قرآنيّ (الآية 40 من سورة الحجّ). ولكلمة الدفع/ الدفاع التي وردت في الآية معنيان في كلام المفسّرين، أضيقهما تفسيرها بالصراع بين الإسلام والكفر، وأعمّهما تفسيرها بصراع الخير والشرّ. ولعلّ محمّد حسين الطباطبائي (ت 1981) هو أحسن من عبّر عن هذا المعنى في قوله: "المراد بدفع الله الناس بعضهم ببعض أعمَّ من القتال. فإنّ دفعَ بعض الناس بعضاً، ذبّاً عن منافع الحياة وحفظاً لاستقامة حال العيش، سنّةٌ فطريّة جارية بين الناس. والسننُ الفطريّة منتهية إليه تعالى. ويشهد به تجهيزُ الإِنسان كسائر الموجودات بأدوات وقوى تسهّل له البطش، ثمّ بالفكر الذي يهديه إلى اتخاذ وسائل الدفع والدفاع عن نفسه، أو أيّ شأن من شؤون نفسه ممّا تتمّ به حياته، وتتوقّف عليه سعادته". والتدافع عند الغنّوشي متّصل بهذا الفهم، ولا يُراد به الاقتتال والصراع وتبريرهما. فهو إذن مقتبِسٌ لا مؤسِّس. إلّا أنّ خصوم "النهضة" المنهمكين في الصراع الإيديولوجيّ تعلّقوا بالمعنى الأوّل، وما انفكّوا يردّدون أنّ الغنّوشي يشرّع للاقتتال والسيطرة على المجتمع، فانحرف الخلاف من مناقشةِ مصطلح التدافع وتثبيتِه قانونا اجتماعيّا، وتخصيصِ معناه بالجدل الفكريّ والصراع المدنيّ، إلى إلقاء التهم، والوقوع في المهاترات الإيديولوجيّة العقِيمِ.
ويبدو من هذه المصطلحات الثلاثة (ومن غيرها كالتوافق، والحرّيّة، والدستور...) أنّ المعجم السياسيّ التونسيّ بعد الثورة يعبّر عن تنوّعٍ في الملفوظ، ولا يعكس تحقّقا للمعنى في الواقع، ولا استقرارا للدلالة في التجربة. ويتميّز بتجاور المتناقضات، فالديمقراطيّةُ في الشعار تجاور الاستبداد في الخطّة، والانتقالُ الديمقراطيّ في الملفوظ يجاور العمل على إفشال الثورة في الممارسة السياسيّة، والمواطنةُ في الخطاب تؤدّي إلى تثبيت الطائفيّة في الضمير والقصد. وسائر مفردات هذا المعجم، تجاور، في غير حرج، مفردات الاستبداد عند رؤساء أحزاب ونوّاب منتخبين. والطريق إلى تغيير الإنسان وتبديل الثقافة، سيّما في الحكومات الرخوة، أطول من الطريق إلى تغيير النظام السياسيّ.