منذ أربع سنوات تقريبًا، تم دمج الإثني عشر مركزًا ثقافيًا فرنسيًا في المملكة المغربية، تحت لافتة واحدة: المعهد الفرنسي في المغرب، الذي يتوزع في المدن المغريبة الآتية: أغادير، الدار البيضاء، الجديدة، الصويرة، فاس، قنيطرة، مراكش، مكناسن وجدة، آسفي، طنجة وتطوان.
وليس اتساع رقعة الامتداد الجغرافي للمعهد الفرنسي في المغرب، هو اللافت وحده، بل إن ضخامة النشاطات التي يقيمها، وتنوعها لتطاول كل مناحي الثقافة تقريبًا، تلفت النظر بطريقة تشعل النقاش، وترفع الجدل. إذ إن هذا الحضور الكلي لـ "ما هو فرنسي" في المغرب، يلقي ظلالًا مخاتلة، تنوس بين أن تكون وارفة أو ثقيلة، راعية أو مشكّلة. ويبدو الموسم الثقافي للمعهد الفرنسي لهذا العام، مختلفًا من حيث ثقله الذي قد يتخذ معنىً سياسيًا أيضًا.
لكن بالنسبة للقائمين على أنشطة المركز الثقافي الفرنسي، فإن الموسم الحالي سيكون مناسبة لتقديم مجموعة من العروض الفنية والثقافية والسينمائية، باعتبار أنها أنشطة تهدف أساسًا إلى تعزيز اللغة والأدب الفرنسيين، وبأن هذا الموسم الثقافي يشكل نافذة على الإبداع الفرنسي المعاصر.
ويراهن المعهد الثقافي الفرنسي في موسمه الجديد الحالي على تقديم واجهات متعددة للشأن الثقافي، وتطوير العلاقات بين المغرب وفرنسا في خدمة الحوار الأورومتوسطي، ومن ذلك افتتاح الموسم بفنون السينما، حيث يتم لأول مرة اقتراح تنظيم مهرجان للفيلم السينمائي، يُعرض في الدار البيضاء، وطنجة ومراكش وتطوان ومدن أخرى.
وضمن أبرز الأنشطة الثقافية للموسم الثقافي الفرنسي بالمغرب خلال شهر أبريل / نيسان الجاري، إجراء مسابقة خاصة بالأفلام القصيرة تحت شعار "أنا مغربي/ ـة"، وذلك في نسخته الثالثة. وسيتم في شهر مايو/ أيار المقبل تنظيم معرض دولي للكتب والفنون بمدينة طنجة، وفي شهر يونيو/ حزيران ستنظم تظاهرة لليالي رمضان، تخللها ندوات فكرية. وعند نهاية الصيف وتحديدًا في شهر سبتمبر / أيلول، سيكون للفلسفة والفلاسفة نصيب وافر من الحضور، إذ إن الشهر برمته مخصص لهما.
هذه الأنشطة الثقافية المكثفة للمعهد الفرنسي خلال هذا الموسم الجديد لسنة 2016، كما في مواسم أخرى سابقة، يقابلها العديد من الناشطين المغاربة، خاصة من مناهضي انتشاراللغة الفرنسية في المجتمع المغربي، بكثير من التحفظ والرفض، ويرون المراكز الثقافية الفرنسية وسيلةً لتكريس الفرنكوفونية، وإعادة الاستعمار من النافذة بعد أن خرج من الباب.
ويقول في هذا الصدد الدكتور فؤاد بوعلي، عالم اللسانيات المغربي ورئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية، في تصريحات لــ "ملحق الثقافة"، إنه في الأحوال العادية تشكل المراكز الثقافية أدواراً مهمة، وآلية رئيسة للتعريف بثقافة البلد ولغته، وجعلها جسورًا للحوار الثقافي بين البلدين. قبل أن يضيف "في الواقع، الأمور ليست بهذه البساطة، فالمراكز الثقافية الفرنسية بالمغرب تعتبر جزءًا من الأزمة الثقافية والحضارية بالمغرب، وليست آلية للحوار بين ثقافتي البلدين"، مبرزًا أن "الحوار الثقافي والحضاري المثمر يكون في العادة أفقيًا وليس عموديًا".
ويشرح رئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية، الذي يضم العشرات من الجمعيات المدافعة عن اللغة العربية ومكانتها بالمغرب، وتناهض تفشي الفرنكوفونية في الحياة العامة للبلاد، بأن "المطّلع على مشاريع هذه المراكز ومساهماتها في تنظيم العديد من الأنشطة السينمائية والإعلامية بغية فرض الثقافة الفرنكفونية وقيمها، يستوعب الغاية الحقيقية لهذه المؤسسات".
وتابع بوعلي بأن هذه المراكز الثقافية الفرنسية تشن من خلال المنتسبين إليها حملة على القيم الإسلامية واللغة العربية، حيث احتضن المركز الثقافي بالبيضاء دومينيك كوبيه المدافعة عن العامية المغربية، التي أسست حركة "نايضة" الشبابية على المستوى الفني واللغوي، كما يبين ذلك الشريط الوثائقي الذي يحمل الاسم نفسه، وأشرفت عليه بالتعاون مع المخرجة المغربية فريدة بليزيد.
واستطرد بوعلي بأن "جميع فروع المعهد الفرنسي في المدن المغربية عملت على ترويج هذا الشريط كصورة للمغرب الحديث والحداثي، كما يشتغل رواق المركز بالمعرض الدولي للكتاب بالبيضاء كل سنة على الترويج للعامية باعتبارها لغة المغاربة" مؤكدا أن هذه الأمثلة وغيرها تثبت أن "هذه المراكز هي وسيلة لفرض الفرانكفونية قيمًا ولغة وتفكيرًا في بعدها الصراعي ضد الثقافة الوطنية".
لكن مقابل هذا الرأي الرافض للأنشطة الثقافية التي تقيمها فرنسا بالمغرب، باعتبار أن "وراء الأكمة ما وراءها"، فإن هناك آراء مخالفة تؤيد الأعمال الثقافية التي ينظمها "بلد عاصمة الأنوار" في المملكة المغربية، على أساس أنها عبارة عن جسر تواصل بين الثقافتين، كما أنها تدعم العلاقات التاريخية والدبلوماسية بين البلدين.
وفي هذا الصدد يرى عبد المجيد طراس، الباحث في اللغة والثقافة الفرنسية، بأن ما تقدمه المراكز الثقافية الفرنسية في المغرب، من عروض فنية وثقافية، ومبادرات إبداعية، وندوات ومعارض، إنما هو "نوع من إعطاء إشعاع أكبر للثقافة الفرنسية، ومكانة أكبر لفائدة لغة موليير في بلدان خارج فرنسا".
وقال الباحث المغربي، في تصريحات لـ"ملحق الثقافة"، إنه من الطبيعي أن تعمل فرنسا، مثل أي بلد آخر، على تنفيذ البرامج والوسائل التي تتيح لها انتشار أكبر لثقافتها، من دون أن يعتبر هذا استعمارًا فكريًا أو حضاريًا، لأن الثقافات تتنافس، والحضارات تتلاقح، ولم يعد من مجال حاليًا للحديث عن غزو حضاري أو ثقافي من بلد لآخر.
وبحسبه، فإن "برامج المراكز الثقافية الفرنسية ليس فيها ما يشير إلى ما يتهمها به البعض من نشر للفرانكوفونية، أو معاداة اللغة العربية، ذلك أنه لكل لغة مجالها المحفوظ، فلغة الضاد لها مكانتها، وهي اللغة الرسمية للمغرب، بالإضافة إلى الأمازيغية، كما أن للغة "موليير" مكانتها الاعتبارية في البلاد".
ودعا الباحث ذاته إلى التوقف عن شيطنة اللغة والثقافة الفرنسية، وتصويرها كأنها تحارب العربية في المغرب، ومحاولة التعاون فيما ينفع مع مثل هذه الأنشطة الثقافية للفرنسيين بالمملكة، لكونها لا تضر أحدًا، مبرزًا أن السياسة الثقافية الخارجية لفرنسا ترتكز على ما يسمى "القوة الناعمة".