الفكرة...المفهموم...الأثر، ثلاثة مرتكزات تفاعلية تقدم لأعمال الفنّان العراقي إسماعيل عزّام في معرضه المعنون بـ"لهم"، الذي يجيب على تساؤل الفنّ المعاصر الرئيس في المنطقة العربية، والمتمثّل في التنظير للفكرة بوصفها "العمل الفنّي"، وتهميش الأسلوب والأدوات والحِرفية المنفذّ بها.
يربط عزّام في هذا المعرض، بين الأفكار والمفاهيم الإنسانية والفكرية تجاه الفنانين العرب الروّاد، من خلال تحقيق التوازن بين أهمية الفكرة الفنية، ممثّلة بالعمل الفنّي، وبين اختيار أفضل الأدوات والأساليب التي تجسّدها وتعبّر عنها، إذ بدأ باكتشاف عواطفه وأفكاره تجاه هؤلاء الروّاد الذين تجمعه بهم علاقة تأثّر بلغتهم البصرية وأسلوبهم الفنّي، وما إن اكتملت لديه "الفكرة" التي ستؤطّر "المفهوم" كي يحيل المُتخَيل إلى واقع مُجسَّد يترك "أثرًا"، بجانب وضوح الصورة الذهنية لديه عنهم، انطلق نحو تحقيق تلك الصورة وتجسيدها وإحالتها إلى واقع عبر مجموعة من الأعمال الفنية الاستثنائية التي أخلص فيها للإرث الفنّي الأصيل من خلال الموضوع والأسلوب.
فتلك الوجوه والتقنيات الفذّة التي نُفذت بها بورتريهات أولئك المبدعين، تجعلنا نتماثل معها ومع تاريخها، بل هي دعوة لقراءة إبداعهم بطريقة مغايرة عن المعتاد من خلال سياق بصري مفاهيمي. فالأسئلة الدائمة لدينا كمشاهدين: من هم أولئك الروّاد؟ ما هي صورهم؟ هل يشبهون أعمالهم؟ هل عندما كنّا نشاهد أعمالهم اقتربنا من تخيل وجوههم؟
تأتي أعمال المعرض لتجيب عن تساؤلاتنا، وتعقد صلحًا بين الفنّ المفاهيمي والفنّ التجسيدي، في ظلّ الصدام المشهود حاليًا على الساحة الفنّية العربية. فوجوه عزّام والتقنيات المنفذة بها، تأخذنا في رحلة مثيرة نكتشف خلالها البعد المخفي في الفنّ العربي، أي الفنانون أنفسهم، وتحقّق لنا مبتغانا في اختبار حقيقة تخيلاتنا.
وحين يحتدم النقاش الفكري لدى المهتمين بالفنّ العربي حول لغة التعبير البصرية في الوقت الراهن، وما إذا كان عليها أن تكون مخلصة لتمثيل الفكرة أم لمفاهيميتها؟ ينأى عزام بلغته الفّنية عن هذا السجال من دون الانحياز لأي رأي، ويعكف على الإبداع من أجل الإبداع فقط. وهو من وجهة نظره أساس الفعل الفنّي، أي أن العمل الفنّي لديه هو مساحة اكتشاف للذات الإبداعية من دون التقيّد بأي سياق أو أفكار افتراضية يجري الجدل بشأنها الآن في عالم الفنّ العربي المعاصر الفتي، الذي قفز بشكل مستغرب في نقاشاته الحالية إلى مرحلة مهمّة في تاريخ الحركة الفنية العربية، هي المرحلة المرافقة للحداثة العربية.
اقرأ أيضاً: من الصنعة إلى الفنّ، ومن التأمل إلى الحسّي
ولا يخفى علينا أن بوادر الإبداع البصري العربي الحديث، التي كانت إحدى روافد النهضة والحداثة العربية قد انبثقت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على أيدي الروّاد الأوائل في كلّ من مصر ولبنان والعراق، واستلهمت مواضيعها من مواضيع الفنّ العالمي وتأثّرت بها، وعنيت بصورة خاصة بفنّ رسم البورتريه. إذ شكل التجسيد الواقعي المرتكز الرئيس للغة التعبير البصرية لدى الفنانين العرب، بفعل تأثير الفنّ الغربي والخبرة الأكاديمية التي اكتسبها الفنانون الروّاد في الأكاديميات الفنية الغربية خلال المراحل التأسيسية للحركة الفنية العربية الحديثة.
فعلى مدار قرن من الزمان استنبط الفنانون العرب تقنياتهم ووسائل تعبيرهم من مرجعيات الفنّ الغربي، لكنهم أسّسوا للغة فنية عربية، أخلصت لسياقها الاجتماعي التاريخي. فهم لا يختلفون عن نظرائهم، إذ إنهم في المقام الأوّل فنانون بكلّ معنى الكلمة، بصرف النظر عن جنسياتهم وخلفياتهم الفكرية والثقافية، فنانون: يشاهدون، يتأثرون، يفكّرون، ينفذون. أي الفنان بمعناه المجرد.
يعود بنا إسماعيل عزّام من خلال المعرض إلى أكثر المواضيع أصالةً في تاريخ الفنّ، وهو رسم البورتريه، خاصّة في خضم الانتشار الواسع لفنون الوسائط المتعددة التي تهتمّ بالفكرة على حساب العمل الفنّي أو التقنيات التي نفذ بها، بل إن حرفة الفنان لم تعد شرطًا للإبداع، فهو يضع الفكرة ويقوم أشخاص أو حتّى آلات بتنفيذها.
ينحاز عزام للحرفية الفنية التي تتماهى مع الفكرة والتقنية لإنجاز العمل الفنّي الذي يشكّل الأساس لديه، وتجربته الفنية الغنية والطويلة تؤكّد ذلك، فهو يولي اهتمامًا كبيرًا للتخطيط والرسم، ويظهر هذا جليًا في مجمل أعماله، رغم تعدّد مواضيعها سواءٌ أكانت في رسم البورتريه أو الطبيعة الصامتة أو المناظر الطبيعية والرسم الواقعي وحتّى التجريد. فعلى مدار رحلته الفنية الممتدّة أكثر من ثلاثين عامًا، كرّس عزّام بكلّ وضوح مبدأ النزعة الفردية في أسلوب عمله، فشكّلت له هوّية خاصة بين أقرانه من الفنانين، إذ رغم توافق مواضيع الطرح الفني لديه مع المواضيع العامة المتعارف عليها في تاريخ الفن، من تصوير للطبيعة، والبورتريه، والتجريد، والكولاج وغيرها، إلا أنه أخرجها من قالب الاعتيادية واتباع المنهج الأكاديمي إلى فضاء التجريب المنفتح على كلّ النتائج. وبرزت تلك الهوّية الخاصّة بشكل كبير في التقنيات التي ينفذ بها مجمل أعماله الفنية، تقنيات اندمجت مع بعضها في أحيان، وتنافرت في ما بينها في أحيان أخرى. لكن هذا التنافر أتى بصورة جمالية أكّدت على انفتاح التجريب لديه على النتائج.
لقد خذلت الصورة النمطية المنطقية، المشاهد عند وقوفه أمام أعمال عزّام، ففي مجموعة سابقة من الأعمال التجسيدية خدعت الصورة مشاهدها عندما اعتقد أنه أمام أعمال منفذة بالفحم، ليكتشف أنها منفذة بالزيت. وفي مجموعة أخرى اعتقد أنه أمام أعمال فوتوغرافية، ليندهش أنها أعمال منفذة بالفحم.
اقرأ أيضاً: كيف احتفلت روسيا بالمئوية الثانية لشاعرها؟
بالتأكيد إن لغة عزام الفنية هي دعوة للمشاهد ليذهب في ما بعد العمل الفني نحو أبعاد تحيله إلى التساؤل والرغبة في اكتشاف شخصيات أعماله، ومعرفة قصصها وتاريخها الفني. فطريقة تجسيده لتلك الوجوه، تشعر المشاهد بوجود تخاطب بينه وبينها، بل إنها تجتاحه بقسماتها التعبيرية ونظراتها المفعمة بالحياة: الألم، المأساة والعفوية.
ربما يمثل بورتريه الفنانة المغربية شعيبية طلال خير دليل على ذلك، فمن خلال تأمّل ذلك العمل، نشعر بالشخصية الفطرية لتلك الرائدة التي قلّ مثيلها. كما تعكس قسمات الوجه قصّتها، بوصفها فنانة كادحة بدأت الرسم من حيث لا بداية، من خلال حلمٍ مبهم التفاصيل حوّلته إلى عمل بصري من دون أن تعرف لماذا فعلت ذلك. فتلك المبدعة الأمية التي عاشت حياة مرهقة وفقيرة بوصفها أمّا أرملة تعيل ابنها من خلال العمل في بيوت الذوات، وجدت في الرسم ملاذًا من ضنك العيش وقسوة الحياة.
كذلك الحال بالنسبة للفنان والكاتب السوداني محمّد بهنس الذي عاش حياة المأساة بكلّ معنى الكلمة، الذي، بعد أن عاش في فرنسا لفترة ما، عاد إلى وطنه محطمًا بعد انهيار حياته الزوجية، ليواجه ألم فقد أخيه وأمّه ويعزل نفسه عن العالم. ثم تقوده الأقدار إلى القاهرة ليقدّم فيها معرضًا شخصيًا، ولكن تأبى المأساة والألم أن يفارقا ذلك المبدع الجميل، فيفقد عالمه وفراغه المعيشي في المدينة المجنونة ويفترش أرصفة شوارعها، ويعيش مشردًا في أزقتها ويموت على أحد أرصفة ميادينها.
أليس من خلال هذا الإبداع النادر والأسلوب المتفرّد استطاع عزام أن يكسر إطار العمل بوصفه عملًا تجسيديًا وأحاله إلى عمل مفاهيمي تجسيدي، يشرك الشخصية المجسدة في تشكيل الفكرة لدى المشاهد؟ ألم يفتح أيضًا المجال أمام الكثير من مختصي الفنّ العربي كي يعيدوا النظر في تأويلاتهم وأفكارهم المسبّقة عن المُنتج الفنّي العربي المعاصر؟
في هذا المعرض الاستثنائي، يقدّم لنا عزام فلسفته الشخصية تجاه الممارسة الفنية بمعناها المجرد أي "توافق الشكل والمضمون"، فالفكرة التي يتمحوّر حولها المعرض، هي هؤلاء الروّاد الذين رحلوا وتركوا لنا إرثًا فنيًا، تأسّس عليه الفن العربي اليوم. وهو بذلك يمنحنا الفرصة كي نتعرف إلى المبدعين الذين طالما شاهدنا أعمالهم وبنينا لهم صورًا شخصية في خيالنا. ويدهشنا بحيوية تلك الوجوه من خلال التقنيات الفذة التي يستخدمها في رسمها وإخلاصه للعمل اليدوي الأصيل.
"لهم" شهادة عرفان لأولئك المؤسسين، كما أنه شهادة تأكيد من فنان قلّ مثيله اليوم، على أن الرسم ما زال يحتل المكانة الأرقى في الفنّ، رغم محاولات الإقصاء التي يتعرّض لها من منظري فن الوسائط المتعددة، الذين لم ينتبهوا إلى أن الرسم والتخطيط بنيا أُسّس التجارب الفنية المعاصرة. وأن الرسم ليس على خصام معها بل متوافق مع طرحها المفاهيمي والفكري، فهو نوع من المفاهيمية.
(ناقد فني فلسطيني)
يربط عزّام في هذا المعرض، بين الأفكار والمفاهيم الإنسانية والفكرية تجاه الفنانين العرب الروّاد، من خلال تحقيق التوازن بين أهمية الفكرة الفنية، ممثّلة بالعمل الفنّي، وبين اختيار أفضل الأدوات والأساليب التي تجسّدها وتعبّر عنها، إذ بدأ باكتشاف عواطفه وأفكاره تجاه هؤلاء الروّاد الذين تجمعه بهم علاقة تأثّر بلغتهم البصرية وأسلوبهم الفنّي، وما إن اكتملت لديه "الفكرة" التي ستؤطّر "المفهوم" كي يحيل المُتخَيل إلى واقع مُجسَّد يترك "أثرًا"، بجانب وضوح الصورة الذهنية لديه عنهم، انطلق نحو تحقيق تلك الصورة وتجسيدها وإحالتها إلى واقع عبر مجموعة من الأعمال الفنية الاستثنائية التي أخلص فيها للإرث الفنّي الأصيل من خلال الموضوع والأسلوب.
فتلك الوجوه والتقنيات الفذّة التي نُفذت بها بورتريهات أولئك المبدعين، تجعلنا نتماثل معها ومع تاريخها، بل هي دعوة لقراءة إبداعهم بطريقة مغايرة عن المعتاد من خلال سياق بصري مفاهيمي. فالأسئلة الدائمة لدينا كمشاهدين: من هم أولئك الروّاد؟ ما هي صورهم؟ هل يشبهون أعمالهم؟ هل عندما كنّا نشاهد أعمالهم اقتربنا من تخيل وجوههم؟
تأتي أعمال المعرض لتجيب عن تساؤلاتنا، وتعقد صلحًا بين الفنّ المفاهيمي والفنّ التجسيدي، في ظلّ الصدام المشهود حاليًا على الساحة الفنّية العربية. فوجوه عزّام والتقنيات المنفذة بها، تأخذنا في رحلة مثيرة نكتشف خلالها البعد المخفي في الفنّ العربي، أي الفنانون أنفسهم، وتحقّق لنا مبتغانا في اختبار حقيقة تخيلاتنا.
وحين يحتدم النقاش الفكري لدى المهتمين بالفنّ العربي حول لغة التعبير البصرية في الوقت الراهن، وما إذا كان عليها أن تكون مخلصة لتمثيل الفكرة أم لمفاهيميتها؟ ينأى عزام بلغته الفّنية عن هذا السجال من دون الانحياز لأي رأي، ويعكف على الإبداع من أجل الإبداع فقط. وهو من وجهة نظره أساس الفعل الفنّي، أي أن العمل الفنّي لديه هو مساحة اكتشاف للذات الإبداعية من دون التقيّد بأي سياق أو أفكار افتراضية يجري الجدل بشأنها الآن في عالم الفنّ العربي المعاصر الفتي، الذي قفز بشكل مستغرب في نقاشاته الحالية إلى مرحلة مهمّة في تاريخ الحركة الفنية العربية، هي المرحلة المرافقة للحداثة العربية.
اقرأ أيضاً: من الصنعة إلى الفنّ، ومن التأمل إلى الحسّي
ولا يخفى علينا أن بوادر الإبداع البصري العربي الحديث، التي كانت إحدى روافد النهضة والحداثة العربية قد انبثقت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على أيدي الروّاد الأوائل في كلّ من مصر ولبنان والعراق، واستلهمت مواضيعها من مواضيع الفنّ العالمي وتأثّرت بها، وعنيت بصورة خاصة بفنّ رسم البورتريه. إذ شكل التجسيد الواقعي المرتكز الرئيس للغة التعبير البصرية لدى الفنانين العرب، بفعل تأثير الفنّ الغربي والخبرة الأكاديمية التي اكتسبها الفنانون الروّاد في الأكاديميات الفنية الغربية خلال المراحل التأسيسية للحركة الفنية العربية الحديثة.
فعلى مدار قرن من الزمان استنبط الفنانون العرب تقنياتهم ووسائل تعبيرهم من مرجعيات الفنّ الغربي، لكنهم أسّسوا للغة فنية عربية، أخلصت لسياقها الاجتماعي التاريخي. فهم لا يختلفون عن نظرائهم، إذ إنهم في المقام الأوّل فنانون بكلّ معنى الكلمة، بصرف النظر عن جنسياتهم وخلفياتهم الفكرية والثقافية، فنانون: يشاهدون، يتأثرون، يفكّرون، ينفذون. أي الفنان بمعناه المجرد.
يعود بنا إسماعيل عزّام من خلال المعرض إلى أكثر المواضيع أصالةً في تاريخ الفنّ، وهو رسم البورتريه، خاصّة في خضم الانتشار الواسع لفنون الوسائط المتعددة التي تهتمّ بالفكرة على حساب العمل الفنّي أو التقنيات التي نفذ بها، بل إن حرفة الفنان لم تعد شرطًا للإبداع، فهو يضع الفكرة ويقوم أشخاص أو حتّى آلات بتنفيذها.
ينحاز عزام للحرفية الفنية التي تتماهى مع الفكرة والتقنية لإنجاز العمل الفنّي الذي يشكّل الأساس لديه، وتجربته الفنية الغنية والطويلة تؤكّد ذلك، فهو يولي اهتمامًا كبيرًا للتخطيط والرسم، ويظهر هذا جليًا في مجمل أعماله، رغم تعدّد مواضيعها سواءٌ أكانت في رسم البورتريه أو الطبيعة الصامتة أو المناظر الطبيعية والرسم الواقعي وحتّى التجريد. فعلى مدار رحلته الفنية الممتدّة أكثر من ثلاثين عامًا، كرّس عزّام بكلّ وضوح مبدأ النزعة الفردية في أسلوب عمله، فشكّلت له هوّية خاصة بين أقرانه من الفنانين، إذ رغم توافق مواضيع الطرح الفني لديه مع المواضيع العامة المتعارف عليها في تاريخ الفن، من تصوير للطبيعة، والبورتريه، والتجريد، والكولاج وغيرها، إلا أنه أخرجها من قالب الاعتيادية واتباع المنهج الأكاديمي إلى فضاء التجريب المنفتح على كلّ النتائج. وبرزت تلك الهوّية الخاصّة بشكل كبير في التقنيات التي ينفذ بها مجمل أعماله الفنية، تقنيات اندمجت مع بعضها في أحيان، وتنافرت في ما بينها في أحيان أخرى. لكن هذا التنافر أتى بصورة جمالية أكّدت على انفتاح التجريب لديه على النتائج.
لقد خذلت الصورة النمطية المنطقية، المشاهد عند وقوفه أمام أعمال عزّام، ففي مجموعة سابقة من الأعمال التجسيدية خدعت الصورة مشاهدها عندما اعتقد أنه أمام أعمال منفذة بالفحم، ليكتشف أنها منفذة بالزيت. وفي مجموعة أخرى اعتقد أنه أمام أعمال فوتوغرافية، ليندهش أنها أعمال منفذة بالفحم.
اقرأ أيضاً: كيف احتفلت روسيا بالمئوية الثانية لشاعرها؟
بالتأكيد إن لغة عزام الفنية هي دعوة للمشاهد ليذهب في ما بعد العمل الفني نحو أبعاد تحيله إلى التساؤل والرغبة في اكتشاف شخصيات أعماله، ومعرفة قصصها وتاريخها الفني. فطريقة تجسيده لتلك الوجوه، تشعر المشاهد بوجود تخاطب بينه وبينها، بل إنها تجتاحه بقسماتها التعبيرية ونظراتها المفعمة بالحياة: الألم، المأساة والعفوية.
ربما يمثل بورتريه الفنانة المغربية شعيبية طلال خير دليل على ذلك، فمن خلال تأمّل ذلك العمل، نشعر بالشخصية الفطرية لتلك الرائدة التي قلّ مثيلها. كما تعكس قسمات الوجه قصّتها، بوصفها فنانة كادحة بدأت الرسم من حيث لا بداية، من خلال حلمٍ مبهم التفاصيل حوّلته إلى عمل بصري من دون أن تعرف لماذا فعلت ذلك. فتلك المبدعة الأمية التي عاشت حياة مرهقة وفقيرة بوصفها أمّا أرملة تعيل ابنها من خلال العمل في بيوت الذوات، وجدت في الرسم ملاذًا من ضنك العيش وقسوة الحياة.
كذلك الحال بالنسبة للفنان والكاتب السوداني محمّد بهنس الذي عاش حياة المأساة بكلّ معنى الكلمة، الذي، بعد أن عاش في فرنسا لفترة ما، عاد إلى وطنه محطمًا بعد انهيار حياته الزوجية، ليواجه ألم فقد أخيه وأمّه ويعزل نفسه عن العالم. ثم تقوده الأقدار إلى القاهرة ليقدّم فيها معرضًا شخصيًا، ولكن تأبى المأساة والألم أن يفارقا ذلك المبدع الجميل، فيفقد عالمه وفراغه المعيشي في المدينة المجنونة ويفترش أرصفة شوارعها، ويعيش مشردًا في أزقتها ويموت على أحد أرصفة ميادينها.
أليس من خلال هذا الإبداع النادر والأسلوب المتفرّد استطاع عزام أن يكسر إطار العمل بوصفه عملًا تجسيديًا وأحاله إلى عمل مفاهيمي تجسيدي، يشرك الشخصية المجسدة في تشكيل الفكرة لدى المشاهد؟ ألم يفتح أيضًا المجال أمام الكثير من مختصي الفنّ العربي كي يعيدوا النظر في تأويلاتهم وأفكارهم المسبّقة عن المُنتج الفنّي العربي المعاصر؟
في هذا المعرض الاستثنائي، يقدّم لنا عزام فلسفته الشخصية تجاه الممارسة الفنية بمعناها المجرد أي "توافق الشكل والمضمون"، فالفكرة التي يتمحوّر حولها المعرض، هي هؤلاء الروّاد الذين رحلوا وتركوا لنا إرثًا فنيًا، تأسّس عليه الفن العربي اليوم. وهو بذلك يمنحنا الفرصة كي نتعرف إلى المبدعين الذين طالما شاهدنا أعمالهم وبنينا لهم صورًا شخصية في خيالنا. ويدهشنا بحيوية تلك الوجوه من خلال التقنيات الفذة التي يستخدمها في رسمها وإخلاصه للعمل اليدوي الأصيل.
"لهم" شهادة عرفان لأولئك المؤسسين، كما أنه شهادة تأكيد من فنان قلّ مثيله اليوم، على أن الرسم ما زال يحتل المكانة الأرقى في الفنّ، رغم محاولات الإقصاء التي يتعرّض لها من منظري فن الوسائط المتعددة، الذين لم ينتبهوا إلى أن الرسم والتخطيط بنيا أُسّس التجارب الفنية المعاصرة. وأن الرسم ليس على خصام معها بل متوافق مع طرحها المفاهيمي والفكري، فهو نوع من المفاهيمية.
(ناقد فني فلسطيني)