الملاذ الصعب

11 مايو 2016
+ الخط -
قبيل جولة "جنيف – 3"، بدأ الكلام على مصير المقاتلين الأجانب في سورية يعلو شيئاً فشيئاً. وهؤلاء المسلحون ينتظرهم مصير راعب حقاً، ومجهول تماماً، وربما يستعيدون تجربة "الأفغان العرب" في تسعينيات القرن المنصرم. وكان "الأفغان العرب" تدفقوا على مدينة بيشاور الباكستانية منذ سنة 1980، تلبيةً لنداء الجهاد ضد "الملحدين" السوفيات. وحمل أولئك معهم التبرعات المالية الوافرة، وبرز منهم كثيرون، أمثال محمد شوقي الإسلامبولي (شقيق خالد الإسلامبولي أحد الذين اغتالوا أنور السادات) وأيمن الظواهري وعبد الله عزام ومصطفى ست مريم (أبو مصعب السوري) وغيرهم. وبعد توقف "الجهاد الأفغاني" في سنة 1989، انضم معظم العرب إلى الحزب الإسلامي (جناح قلب الدين حكمتيار) وإلى "الجمعية الإسلامية" التي كان يقودها برهان الدين رباني، وشاركوا في الصراعات الدموية التي اندلعت بين الفصائل الأفغانية. وقتل، في هذا السياق، عبد الله عزام وولداه، واغتال تونسيان قائد "المقاومة" في بانشير أحمد شاه مسعود. وبالتدريج، راح المقاتلون العرب يكتشفون أنهم ليسوا إلا وقوداً في صراعات الأفغان، وأن الفصائل الأفغانية القبلية لا همّ لها إلا السلطة وجني الأموال من تجارة المخدرات، وتلقي الأموال من الخارج، فراحوا يفتشون عن بلادٍ آمنة لهم.
في سنة 1993، بدأ رحيل هؤلاء المقاتلين وترحيلهم، بعدما راحت باكستان تضيّق عليهم إقامتهم في أراضيها، وكذلك حكومة رئيس حركة تحرير أفغانستان، صبغة الله مجدّدي. واتجه المرحّلون إلى جهاتٍ كثيرة؛ تسلل بعضهم إلى إيران، وتعاون مع استخباراتها ضد حكومة نواز شريف. ومنهم من ذهب إلى السودان، غداة الانقلاب الذي قاده عمر حسن البشير في 30/6/1989، متحالفاً مع حسن الترابي. وهاجرت مجموعاتٌ كبيرة إلى اليمن، وأقامت معسكراتٍ لها في صعدة، وهؤلاء رُحّلوا لاحقاً إلى الصومال، من ميناء المكلا، والتحقوا بصفوف حزب الاتحاد الإسلامي. وفي الوقت نفسه، ذهب آخرون إلى ألبانيا، ومنها إلى كوسوفو، للمشاركة في "الجهاد البوسني". وعلى غرار الأمس، ها هم مقاتلو اليوم شركس وشيشان وأكراد وعرب وأفغان وداغستان وأرناؤوط وأتراك وطاجيك وأوزبك وتركستانيون وبوسنيون وقوقازيون، ينتظرون معركة مرج دابق الثانية التي ستندلع في آخر الزمان، بحسب هذيانهم القيامي. وهذا الخليط البشري غير المتجانس من الباحثين عن طوبى أرضية مستحيلة، بدأ يواجه فشلاً وراء فشل، بعد ست سنوات من القتال والتقاتل في سورية. وكثير من هؤلاء الحالمين بطوبى العنف والتكفير خاب أملهم، خصوصاً بعد الصراع الدامي بين "داعش" و"أحرار الشام" مثلاً، وبين "داعش" وجبهة النصرة. وكان لسقوط آلاف الضحايا منهم أثر كبير في جعل مئاتٍ من هؤلاء المقاتلين يهربون من مواقعهم، ويفرّون إلى تركيا، ثم إلى أوروبا. ويجسّد هؤلاء مشكلة حقاً، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان تجربة العائدين من أفغانستان والبوسنة الذين نشروا العنف في كل مكان. ولعل الخطر الأكبر هو المقاتلون الذين جاءوا من أوروبا، ومن دول الاتحاد السوفياتي السابق. فدون عودتهم إلى بلدانهم مصاعب كبيرة، وسيحاولون التسلل، بالتأكيد، إلى الدول المبتلاة بالحروب، مثل مالي والصومال وليبيا ونيجيريا، ما يشكل تهديداً خطيراً، لا لهذه الدول وحدها، بل للدول المجاورة، مثل المغرب والجزائر وتونس ومصر والسودان.
وهناك مخاوف كبرى من أن يتزايد العنف في الفيليبين والهند والصين، وروسيا بالطبع، علاوة على أوروبا، جرّاء وصول أعدادٍ لا يمكن تقديرها من هؤلاء الإرهابيين الخائبين الغاضبين، بعد اكتسابهم خبراتٍ هائلة في عمليات التفجير وقتال المدن. وعلى الراجح، ستكون الدول التي تحتدم فيها النزاعات الانفصالية ملاذاً لهؤلاء، مثل الفيليبين (جماعة أبو سياف)، ونيجيريا التي يتعرّض المسيحيون فيها للإبادة على أيدي مقاتلي "بوكو حرام"، والصين، فضلاً عن الصراعات الدموية ضد الهندوس في كشمير والروس في الشيشان والأرثوذكس في كوسوفو.
إنه عالم ما بعد العولمة... يا لطيف.