عاد التوتر ليخيم على العلاقات المصرية التركية على خلفية تصريحات وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، أول من أمس، بشأن عدم الاعتراف بالاتفاق المبرم بين مصر وقبرص في عام 2013 بترسيم الحدود البحرية بين البلدين وتقاسم مكامن الهيدروكربون للاستفادة من المصادر الطبيعية في المنطقة الاقتصادية الخالصة للبلدين في شرق البحر المتوسط.
وأصدرت وزارة الخارجية المصرية بياناً شجبت فيه تلك التصريحات، وأكدت أنه لا يمكن لأي طرف أن ينازع في قانونية اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص، لأنها تتسق مع قواعد القانون الدولي، وتم إيداعها كاتفاقية دولية في الأمم المتحدة. وحمل بيان الخارجية المصرية بشدة على أنقرة، رافضاً "أي محاولة للمساس أو الانتقاص من حقوق مصر السيادية في تلك المنطقة، وأنها تعتبر مرفوضة وسيتم التصدي لها"، على الرغم من أن تركيا لم تنتقد الاتفاقية بسبب مصر، بل بسبب عدم اعترافها باستقلال قبرص، واعتبارها المياه الإقليمية القبرصية حقاً سيادياً لتركيا، وأنه كان يجب على قبرص عدم إبرام أي اتفاق لحين تسوية الأزمة القبرصية، فضلاً عن حل الخلاف الحدودي البحري بين تركيا واليونان.
وتتجه تركيا لاتخاذ خطوات قانونية دولية لإبطال الاتفاقية، بدعوى انتهاكها للجرف القاري والمياه الإقليمية التركية عند خطي طول محددين، لمناسبة بدء قبرص أنشطة بحثية للتنقيب عن الغاز الطبيعي في المنطقة الاقتصادية الخاصة بها وفق الاتفاقية، والتي تعتبرها تركيا جزءاً من المياه الإقليمية المتنازع عليها، والمناطق المتداخلة بينها وبين اليونان. وقال مصدر دبلوماسي مصري إن خطوة التصعيد التركية تهدف، على ما يبدو، إلى تعطيل الجهود المصرية-اليونانية المشتركة لإبرام اتفاقية ترسيم الحدود البحرية وتحديد المناطق الاقتصادية بينهما، لأنه من المتوقع إبرامها العام المقبل على أقصى تقدير، بسبب انتهاء بعض المشاكل الفنية التي واجهت اللجان المشتركة بين البلدين لتحديد نقاط التماس الرئيسية. وأضاف المصدر أن تركيا تخشى أن تنجز اليونان ترسيم حدودها البحرية مع مصر، أسوة بقبرص، وتودع تلك الحدود في الأمم المتحدة كما حدث بين مصر وقبرص، فيؤدي هذا الأمر إلى تصعيب فرصة تركيا في تأمين سيادتها على بعض الجزر المتنازع عليها مع اليونان، خصوصاً وأن أنقرة كانت تراهن على استمرار تعثر ترسيم الحدود بين مصر واليونان إلى حين حسم المشاكل بين اليونان وتركيا.
وأوضح أن تركيا باتت تعلم جيداً أن القاهرة حريصة أكثر من أي وقت مضى على إنهاء مشاكلها الحدودية البحرية لاجتذاب مزيد من الاستثمارات في قطاعي الغاز الطبيعي والبترول، باعتباره القطاع الوحيد الذي تملك مصر سبل تحقيق نجاح اقتصادي كبير فيه من دون انتظار عشرات السنوات، ما جعل مصر تتخلى عن حذرها الذي كان قائماً في عهد الرئيس المخلوع، حسني مبارك، قبل ثورة 2011، والذي كان يرى تأجيل حسم ملف الحدود وتقاسم الثروات في البحر المتوسط إلى حين تسوية النزاعات التركية اليونانية من جانب، ولعدم التورط بالاعتراف بحدود المياه الإقليمية المزعومة لإسرائيل من جانب آخر. وتابع المصدر أن "المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي كان السيسي عضواً فيه، كان يرى إبقاء الوضع على ما هو عليه إلى حين وجود سلطة منتخبة، رغم ممارسة دول الجوار بعض الضغوط عليه لغلق ملفات الحدود البحرية. ولذلك كانت هذه المسألة على رأس أولويات السيسي، سواء بالنسبة إلى البحر الأحمر أو البحر المتوسط، فالحسابات المعقدة لمبارك إزاء تركيا أو إسرائيل، ليست في حسبانه، فهو يتعامل مع الأولى كخصم إقليمي بعد 2013، وليست لديه مشاكل في التعاون مع الثانية على مختلف الأصعدة، سياسياً واستراتيجياً وأمنياً". وأكد أن إسرائيل كانت على رأس الدول المرحبة والداعمة لخطوة ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص، ليس فقط لأنها تكرس سيطرتها الفعلية على بعض حقول الغاز والعلامات في عمق المتوسط نتيجة أسبقية ترسيم المناطق الاقتصادية بين قبرص وإسرائيل، ولكن أيضاً لأن غلق هذا الملف يقرب أكثر من أي وقت مضى خطوة ترسيم الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل، أو على الأقل الاتفاق على حدود المناطق الاقتصادية بينهما.
وعلى الصعيد القانوني الرسمي، تبدو مصر متمسكة بالمضي قدماً في إبرام مثل هذه الاتفاقيات، حتى لا يتكرر ما حدث عام 2011، عندما انسحبت شركة "شل" الهولندية من حقل "نيميد" المصري، الذي منحتها حكومة كمال الجنزوري حق امتيازه في عام 1999، بزعم تداخله التام مع حقل غاز "أفروديت" القبرصي، الذي تنشط فيه عمليات التنقيب والاستخراج وفق اتفاق سابق بين قبرص وإسرائيل، وبالتالي فإن الرؤية المصرية مستقرة على ضرورة "ترسيم الحدود" كحافز للاستثمارات، ولا سيما مع احتياجها المتزايد من الطاقة والهبوط المطرد في قيمة العملة المحلية. مصدر قضائي مصري، شارك في أعمال لجان ترسيم الحدود البحرية في عهد المجلس العسكري، قال إن الاتفاقية الموقعة بين مصر وقبرص، في عام 2013، هي في حقيقتها "قاعدة نهائية" لتقاسم مكامن الغاز في المناطق الاقتصادية بين البلدين، بسبب تداخل بعض العلامات الحدودية وصعوبة فصلها، الأمر الذي أدى سابقاً إلى انسحاب شركة "شل"، ورفض بعض الشركات العالمية الأخرى توسيع أعمالها في مصر قبل تسوية المشاكل الحدودية حرصاً على أموالها، أخذاً في الاعتبار أن قبرص كانت سبقت مصر للاستثمار في تلك المناطق بواسطة شركات "إيني" الإيطالية، التي تدير حالياً حقل "ظهر" المصري العملاق، و"توتال" الفرنسية، و"نوبل أنيرجي" الأميركية. وتم هذا التقسيم استناداً للاتفاق الحدودي الموقع بين البلدين في عام 2004، والذي ظل مجرد "حبر على ورق" لمدة 10 سنوات تقريباً، لأنه كان معلقاً من الناحية العملية على شرط اقتسام المياه الاقتصادية بين البلدين بالتساوي، وهو ما لم يتم إلاّ في 2013 من خلال الاتفاقية التي تعارضها تركيا.
وأضاف المصدر القضائي إن العديد من الخبراء الفنيين والقانونيين الذين شاركوا، أو استشارتهم الدولة في أعمال الترسيم، اعترضوا على الاتفاقية بسبب شكوك حول عدالتها، وحول استفادة بعض الشركات التي سبق أن أجرت أنشطة استكشافية في المنطقة من استمرار تبعية مناطق بعينها لقبرص رغم قربها أكثر للشواطئ المصرية، فضلاً عن اعتمادها على حدود افتراضية غير معترف بها دولياً للمياه الإقليمية الإسرائيلية، وهو ما دفع مجلس الشورى، ذا الأغلبية الإسلامية، في مارس/آذار 2013 لتبني مشروع مبدئي لإلغاء الاتفاقية أو تعديلها لتأمين المصالح المصرية. وأكد المصدر القضائي أن النظام الحالي سبق أن التف على كل هذه المشاكل، رغبة في الإسراع بالاستفادة اقتصادياً "مما تيسر من المناطق الاقتصادية الخالصة لمصر"، وآثر عدم الدخول في صراعات دبلوماسية أو قانونية تستغرق وقتاً طويلاً، ما يؤكد عدم استعداد السيسي للتراجع عن حسم ملف الحدود مع اليونان، أملاً في جذب مزيد من الاستثمارات، حتى ولو كان سيتسبب في تفاقم التوتر مع تركيا. وشهدت الفترة الماضية تقارباً دبلوماسياً وتجارياً بين مصر وتركيا، بلغ ذروته بعقد مؤتمرات متبادلة لتطوير التعاون التجاري والصناعي، وإدلاء وزير الخارجية المصري، سامح شكري، بتصريحات ذكر فيها أن "مصر تأمل في عودة العلاقات مع أنقرة، وأنها منفتحة على ذلك، ولديها رغبة دائمة في تجاوز أي توتر"، مشيداً بما وصفه "تراجع الاستفزازات التركية وصدور تصريحات معتدلة من مسؤولين أتراك".