05 يونيو 2017
المنطق الطائفي للأكثرية والأقلية
في زمن الاحتقان الطائفي الذي نعايشه، نندفع إلى تكرار الحديث حول المفاهيم، والأمور المعروفة، نظراً إلى ما تفرضه لحظة الأزمة هذه، ويبدو لزاماً أن نعيد التذكير بقضايا، مثل مفاهيم الأمة والطائفة، ولاسيما أن هناك من الطائفيين من يردد مقولاتٍ من نوع: السنة هم الأمة، والبقية طوائف، إما لشحذ الهمم الطائفية، أو لمواجهة انكسارٍ طائفي ما. والحقيقة أن السنة بالفعل لم يكونوا طائفة من قبل، وأن هذا القول يراد، من خلاله، دفعهم ليكونوا طائفة، ويمكن أن نذكر أن هذه المقولة كانت محط تندر كبير قبل سنوات، حين صدرت من موتورين يعرّفون أنفسهم مفكرين، لكنه اليوم قولٌ ينتشر في أوساط من كانوا يتندرون بالأمس، ما يشير إلى ابتلاع هؤلاء من العاصفة الطائفية التي تهب علينا بعنف.
ليس مفهوماً ما يستند إليه من يقول إن السنة هم الأمة، وإذا كان العدد هو الموضوع، لأن أعداد السنة كبيرة حول العالم، فإن السنة والشيعة ليسوا الأمة، فالمسيحيون في منطقتنا هم الأمة، لأن أعدادهم حول العالم أكبر من أعداد المسلمين، سنةً وشيعة. صحيح أن هذا الطرح متهافت، لكنه يجد قبولاً في جو التوتر. وعليه، من الجيد التذكير أن الأمة بالمعنى السياسي تختلف عن الأمة بالمعنى الديني، إذ إن الأمة، بتعريف بندكت أندرسون الشهير، هي الجماعة السياسية المتخيلة، "حيث يشمل التخيّل أنها محددة وسيدة أصلاً"، وهي متخيلة وليست خيالية، بل هي جماعة واقعية، لكن أفرادها لا يعرفون بعضهم مباشرة، ويحتاجون إلى تخيّل أنفسهم داخل هذه الجماعة، عبر أدواتٍ، مثل اللغة المطبوعة والثقافة والتاريخ المشترك، ولهذه الجماعة أهداف سياسية، وحدود تقف عندها، وسيادة على رقعة جغرافية محددة، والسيادة مفهوم حديث، كما هو مفهوم الأمة هذا، ولم يكن موجوداً في عصر الامبراطوريات، حين كان الامبراطور (أو الخليفة في الحالة الإسلامية) يحكم مناطق شاسعة، فيها شعوب مختلفة، لا يجمعها سوى نفوذ الامبراطور عليها.
الجماعات الدينية والمذهبية متخيلة أيضاً، لكنها ليست محدودة بحدود معينة. لذلك، الأمة الدينية ليست أمة بالمعنى السياسي الحديث، حيث لا حدود لوجود أتباع الأديان المختلفة، فالمسلمون مثلاً موجودون في كل أنحاء العالم، وليس هناك سيادة لهم على أرضٍ محددة، كما أن مفهوم الأمة الوارد في القرآن حمل معاني مختلفة، بحسب السياق، مثلما يشرح ناصيف نصار في كتابه (مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ)، وفي كل هذه المعاني، لا يوجد معنى يشابه المعنى السياسي الحديث للأمة، الساعية إلى تقرير مصيرها، وإيجاد كيانٍ سياسي يعبر عنها.
هناك أزمة معروفة داخل الوطن العربي، تمثلت في عدم تعبير الكيانات الوطنية القائمة عن أمم ذات هوية متماسكة، وعدم مطابقة حدود الدولة القُطرية حدود الأمة العربية. وهنا، نشأت أزمة هوية داخل هذه الكيانات، نشاهد بوضوح نتائجها في أكثر من دولة عربية، مع بروز الجماعات الأهلية، وهوياتها والأدبيات المعبرة عنها، ومنها الحديث عن الأمة والطائفة، وعن الأكثرية والأقلية. وهنا، يتم استجلاب المنطق الديمقراطي، حول حكم الأكثرية، ومعارضة الأقلية، إلى السجال الطائفي، ليؤكد بعضهم أن السنة هم الأكثرية بشكل عام، ولابد لهم أن يحكموا، وعلى الشيعة وغيرهم أن يقبلوا بأن يجلسوا في المقعد الخلفي، مع حفظ حقوقهم، أو ما تيسّر منها (هذه مسألة فيها تفصيل وتفاوت)، لأن للأكثرية الحق الأصيل، في الحكم والقيادة.
يعيدنا هذا المنطق إلى أزمة العراق، حين أصرت الأحزاب الطائفية الشيعية على الفكرة نفسها، مدعيةً أن من حقها الحكم، لأنها ممثلة للأكثرية الشيعية، مقابل الأقلية السنية في العراق، ما أدى إلى تركيبة فاشلة، أنتجتها السياسات الطائفية، ويجني العراق ثمارها المُرَّة اليوم. وما يمكن استنتاجه أن لا علاقة لمنطق الأكثرية والأقلية الطائفي بمنطق الأكثرية والأقلية الديمقراطي، فالأخير يفترض وجود أمة/جماعة سياسية، يحصل داخلها التنافس بين برامج عمل، قد تتغير مواقع أصحابها بين الأكثرية والأقلية، ضمن اللعبة السياسية، بينما يفترض المنطق الطائفي للأكثرية والأقلية وجود أكثرية ثابتة، لها الحكم بشكل مستمر، لا تتغير ولا تتبدل، وكونها أكثرية ليس قائماً على تنافسٍ لتمثيل الأمة أو الجماعة السياسية، بل على حق أصيل لمجموعة معينة، بحسب وزنها السكاني، وعلى وجود جماعة سياسية، مقابل جماعة سياسية أخرى، ولكل واحدة حصتها، بما يضرب مفهوم الجماعة السياسية الوطنية، لصالح الجماعات المذهبية.
الحديث عن الأكثرية والأقلية، من أي طرفٍ طائفي، جزء من أدوات تعزيز الحالة الطائفية، وتثبيتها في الوجدان العام، وهناك محاولة حثيثة لتكريس الهوية الطائفية في وعي الناس، وإقناعهم بالتخندق الطائفي، وتحصيل مكتسبات للطائفة، مثل الحديث عن الأكثرية الشيعية في حالة العراق، أو الحديث، أخيراً، بتكرار عن الأكثرية السنية في المشرق العربي، والعمل على تصنيع هوية طائفية للسنة، يشكي حاملوها من ظلم الأقليات، وهؤلاء لا يريدون خير أهل السنة، ولا خير الأمة كلها، وإنما ينساقون وراء حالة غرائزية وشعبوية، ويسعون إلى ضرب الناس ببعضها، وتبرير الاحتراب الطائفي، عبر ترديد شعارات المظلومية، والإشارة إلى حق الأكثرية المهضوم.
ليس مفهوماً ما يستند إليه من يقول إن السنة هم الأمة، وإذا كان العدد هو الموضوع، لأن أعداد السنة كبيرة حول العالم، فإن السنة والشيعة ليسوا الأمة، فالمسيحيون في منطقتنا هم الأمة، لأن أعدادهم حول العالم أكبر من أعداد المسلمين، سنةً وشيعة. صحيح أن هذا الطرح متهافت، لكنه يجد قبولاً في جو التوتر. وعليه، من الجيد التذكير أن الأمة بالمعنى السياسي تختلف عن الأمة بالمعنى الديني، إذ إن الأمة، بتعريف بندكت أندرسون الشهير، هي الجماعة السياسية المتخيلة، "حيث يشمل التخيّل أنها محددة وسيدة أصلاً"، وهي متخيلة وليست خيالية، بل هي جماعة واقعية، لكن أفرادها لا يعرفون بعضهم مباشرة، ويحتاجون إلى تخيّل أنفسهم داخل هذه الجماعة، عبر أدواتٍ، مثل اللغة المطبوعة والثقافة والتاريخ المشترك، ولهذه الجماعة أهداف سياسية، وحدود تقف عندها، وسيادة على رقعة جغرافية محددة، والسيادة مفهوم حديث، كما هو مفهوم الأمة هذا، ولم يكن موجوداً في عصر الامبراطوريات، حين كان الامبراطور (أو الخليفة في الحالة الإسلامية) يحكم مناطق شاسعة، فيها شعوب مختلفة، لا يجمعها سوى نفوذ الامبراطور عليها.
الجماعات الدينية والمذهبية متخيلة أيضاً، لكنها ليست محدودة بحدود معينة. لذلك، الأمة الدينية ليست أمة بالمعنى السياسي الحديث، حيث لا حدود لوجود أتباع الأديان المختلفة، فالمسلمون مثلاً موجودون في كل أنحاء العالم، وليس هناك سيادة لهم على أرضٍ محددة، كما أن مفهوم الأمة الوارد في القرآن حمل معاني مختلفة، بحسب السياق، مثلما يشرح ناصيف نصار في كتابه (مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ)، وفي كل هذه المعاني، لا يوجد معنى يشابه المعنى السياسي الحديث للأمة، الساعية إلى تقرير مصيرها، وإيجاد كيانٍ سياسي يعبر عنها.
هناك أزمة معروفة داخل الوطن العربي، تمثلت في عدم تعبير الكيانات الوطنية القائمة عن أمم ذات هوية متماسكة، وعدم مطابقة حدود الدولة القُطرية حدود الأمة العربية. وهنا، نشأت أزمة هوية داخل هذه الكيانات، نشاهد بوضوح نتائجها في أكثر من دولة عربية، مع بروز الجماعات الأهلية، وهوياتها والأدبيات المعبرة عنها، ومنها الحديث عن الأمة والطائفة، وعن الأكثرية والأقلية. وهنا، يتم استجلاب المنطق الديمقراطي، حول حكم الأكثرية، ومعارضة الأقلية، إلى السجال الطائفي، ليؤكد بعضهم أن السنة هم الأكثرية بشكل عام، ولابد لهم أن يحكموا، وعلى الشيعة وغيرهم أن يقبلوا بأن يجلسوا في المقعد الخلفي، مع حفظ حقوقهم، أو ما تيسّر منها (هذه مسألة فيها تفصيل وتفاوت)، لأن للأكثرية الحق الأصيل، في الحكم والقيادة.
يعيدنا هذا المنطق إلى أزمة العراق، حين أصرت الأحزاب الطائفية الشيعية على الفكرة نفسها، مدعيةً أن من حقها الحكم، لأنها ممثلة للأكثرية الشيعية، مقابل الأقلية السنية في العراق، ما أدى إلى تركيبة فاشلة، أنتجتها السياسات الطائفية، ويجني العراق ثمارها المُرَّة اليوم. وما يمكن استنتاجه أن لا علاقة لمنطق الأكثرية والأقلية الطائفي بمنطق الأكثرية والأقلية الديمقراطي، فالأخير يفترض وجود أمة/جماعة سياسية، يحصل داخلها التنافس بين برامج عمل، قد تتغير مواقع أصحابها بين الأكثرية والأقلية، ضمن اللعبة السياسية، بينما يفترض المنطق الطائفي للأكثرية والأقلية وجود أكثرية ثابتة، لها الحكم بشكل مستمر، لا تتغير ولا تتبدل، وكونها أكثرية ليس قائماً على تنافسٍ لتمثيل الأمة أو الجماعة السياسية، بل على حق أصيل لمجموعة معينة، بحسب وزنها السكاني، وعلى وجود جماعة سياسية، مقابل جماعة سياسية أخرى، ولكل واحدة حصتها، بما يضرب مفهوم الجماعة السياسية الوطنية، لصالح الجماعات المذهبية.
الحديث عن الأكثرية والأقلية، من أي طرفٍ طائفي، جزء من أدوات تعزيز الحالة الطائفية، وتثبيتها في الوجدان العام، وهناك محاولة حثيثة لتكريس الهوية الطائفية في وعي الناس، وإقناعهم بالتخندق الطائفي، وتحصيل مكتسبات للطائفة، مثل الحديث عن الأكثرية الشيعية في حالة العراق، أو الحديث، أخيراً، بتكرار عن الأكثرية السنية في المشرق العربي، والعمل على تصنيع هوية طائفية للسنة، يشكي حاملوها من ظلم الأقليات، وهؤلاء لا يريدون خير أهل السنة، ولا خير الأمة كلها، وإنما ينساقون وراء حالة غرائزية وشعبوية، ويسعون إلى ضرب الناس ببعضها، وتبرير الاحتراب الطائفي، عبر ترديد شعارات المظلومية، والإشارة إلى حق الأكثرية المهضوم.