يكشف أبطال رواية سناء أبو شرار الأخيرة "سويسرا الوطن والمنفى" عن راهن عربي طاردٍ تحكمه الفوضى، يتداعى فيه الأمن والأمان، ويتسيد الموت والدمار صورة المشهد. تتحدث الرواية عن التجارب الإنسانية لأبطالها في المنفى، لكن في حضور قوي للخلفية السياسية لكل تجربة منها، تتجسد في بؤس الواقع السياسي وفشله الذي يدفع الناس إلى الهرب بأرواحهم باحثين عن أوطان بديلة.
تقرر ليلى بطلة الرواية القادمة من سورية ترك بلدها، بعد أن فقدت كل شيء. الأهل الذين قُتلوا، والبيت الذي دُمّر. تغادر مدينتها التي لا تغادر روحها أبداً، ويستمر الألم والحزن بداخلها وهي في سويسرا البلد الآمن الذي منحها لجوءاً وعملاً. لنراها لاحقاً تستقبل بطاقة إقامتها بالبكاء ليس فرحاً بالوطن الجديد بل حزناً على ذلك الضائع.
سرعان ما نطل لاحقاً على بسام، الفنان العراقي، والشخصية الأساسية الثانية، وهو يستعيد صورة بغداد الجميلة ويعيد إحياء وتخليد شوارعها وأبنيتها ونخيلها في لوحاته. أما كمال الفلسطيني الذي اختار المنفى بحثاً عن مستقبل أفضل له ولأبنائه، فقد انخرط في مجتمعه الجديد بالعمل والزواج من سويسرية متقبلاً قوانين الثقافة الجديدة. لكنه ما يلبث أن يُصدم بواقع الاختلاف والتقوقع في الشرنقة التي تلتف حول المغترب، سواء كان في وطنه أو في منفاه.
تجمع المعاناة الإنسانية هؤلاء الأفراد في موطنهم الجديد، وتسيطر الذكريات الأليمة على دواخلهم المنكسرة التي لا يتاح لها أن تتذوق نعمة العيش في مكان جميل، لذا تستحوذ عليهم الرغبة بالنسيان، فيغرقون أنفسهم بالعمل والتعب، الذي يبعدهم عن التفكير بماضيهم وذكرياتهم والربط العاطفي بين صورة الوطن في بلاد الشمس حيث الدفء والحنان، و"أنشودة الفرح في الأزقة الضيقة"، وبين صورة المنفى القاسي والبارد بثلوجه وصقيعه ونظامه وحدوده.
تأتي الانعطافة الحقيقية في حيوات أبطال الرواية، مع بداية التحول في شخصياتهم من الإحساس بالغربة والعيش على هامش المكان، إلى بداية الانتماء والاندماج والسعادة والرغبة بالاستمتاع بالحياة في هذا الوطن الجديد، حيث العمل وتحقيق الطموح والعلاقات الإنسانية الدافئة. تشعر ليلى بهذه اليقظة الروحية، وهي تحضر معرض صديقها داني وتتأمل صورة الجبال الشاهقة الوعرة التي رأتها تتماهى مع وعورة حياتها، وكيف انبثقت شجرة قوية من بين الصخور، لتأخذ مكانها في الوجود والحياة.
لا تلغي هذه الانعطافة الوجودية، الصراع الثقافي الكامن بين عالمين مختلفين: الشرق والغرب. ففي معظم الحوارات يتم استدعاء الثقافة الأخرى المختلفة التي تضمر تصريحاً حول "ثقافة شرقية متخلفة أمام غربية متحضرة". نرى الطرف الغربي متحفزاً دائماً للنقد والسخرية والهجوم لحد الاستفزاز. بيد أن ذلك كله، لا يغفل الإنسانية التي تجمع الطرفين، والتي تظهر في صور عديدة من التعاطف والمساعدة والحب.
تبقى الحقيقة المؤلمة التي يعيشها الأبطال الشرقيون في هذا العالم المزدهر والمستقر، تلح بالسؤال عن أوضاع أوطانهم البائسة والفقيرة والمدمرة، كصرخة تنذر بالأخطار المحدقة التي تنتظر الإرادة والصدق لحلها.
ويستدعي المنفى، موضوعاً لا يقل قسوة عنه، وهو إحساس الإنسان بالغربة في وطنه. هي تلك القسوة التي تدفع روبرتا (شبيهة ليلى) للانتحار، بينما تصمد ليلى وتكافح رغم حياتها الصعبة. وكذلك تشعر كريستا صديقة بسام بالوحدة في بلدها وتشكره على اهتمامه بها، وحين تعلم بمرضها العضال تدرك أن مغادرة الحياة هي أصعب من مغادرة أرض ما، وأن على الإنسان أن يدرك قيمة الحياة، وأن يحيا بذكاء أينما كان.
(كاتبة سورية)
تقرر ليلى بطلة الرواية القادمة من سورية ترك بلدها، بعد أن فقدت كل شيء. الأهل الذين قُتلوا، والبيت الذي دُمّر. تغادر مدينتها التي لا تغادر روحها أبداً، ويستمر الألم والحزن بداخلها وهي في سويسرا البلد الآمن الذي منحها لجوءاً وعملاً. لنراها لاحقاً تستقبل بطاقة إقامتها بالبكاء ليس فرحاً بالوطن الجديد بل حزناً على ذلك الضائع.
سرعان ما نطل لاحقاً على بسام، الفنان العراقي، والشخصية الأساسية الثانية، وهو يستعيد صورة بغداد الجميلة ويعيد إحياء وتخليد شوارعها وأبنيتها ونخيلها في لوحاته. أما كمال الفلسطيني الذي اختار المنفى بحثاً عن مستقبل أفضل له ولأبنائه، فقد انخرط في مجتمعه الجديد بالعمل والزواج من سويسرية متقبلاً قوانين الثقافة الجديدة. لكنه ما يلبث أن يُصدم بواقع الاختلاف والتقوقع في الشرنقة التي تلتف حول المغترب، سواء كان في وطنه أو في منفاه.
تجمع المعاناة الإنسانية هؤلاء الأفراد في موطنهم الجديد، وتسيطر الذكريات الأليمة على دواخلهم المنكسرة التي لا يتاح لها أن تتذوق نعمة العيش في مكان جميل، لذا تستحوذ عليهم الرغبة بالنسيان، فيغرقون أنفسهم بالعمل والتعب، الذي يبعدهم عن التفكير بماضيهم وذكرياتهم والربط العاطفي بين صورة الوطن في بلاد الشمس حيث الدفء والحنان، و"أنشودة الفرح في الأزقة الضيقة"، وبين صورة المنفى القاسي والبارد بثلوجه وصقيعه ونظامه وحدوده.
تأتي الانعطافة الحقيقية في حيوات أبطال الرواية، مع بداية التحول في شخصياتهم من الإحساس بالغربة والعيش على هامش المكان، إلى بداية الانتماء والاندماج والسعادة والرغبة بالاستمتاع بالحياة في هذا الوطن الجديد، حيث العمل وتحقيق الطموح والعلاقات الإنسانية الدافئة. تشعر ليلى بهذه اليقظة الروحية، وهي تحضر معرض صديقها داني وتتأمل صورة الجبال الشاهقة الوعرة التي رأتها تتماهى مع وعورة حياتها، وكيف انبثقت شجرة قوية من بين الصخور، لتأخذ مكانها في الوجود والحياة.
لا تلغي هذه الانعطافة الوجودية، الصراع الثقافي الكامن بين عالمين مختلفين: الشرق والغرب. ففي معظم الحوارات يتم استدعاء الثقافة الأخرى المختلفة التي تضمر تصريحاً حول "ثقافة شرقية متخلفة أمام غربية متحضرة". نرى الطرف الغربي متحفزاً دائماً للنقد والسخرية والهجوم لحد الاستفزاز. بيد أن ذلك كله، لا يغفل الإنسانية التي تجمع الطرفين، والتي تظهر في صور عديدة من التعاطف والمساعدة والحب.
تبقى الحقيقة المؤلمة التي يعيشها الأبطال الشرقيون في هذا العالم المزدهر والمستقر، تلح بالسؤال عن أوضاع أوطانهم البائسة والفقيرة والمدمرة، كصرخة تنذر بالأخطار المحدقة التي تنتظر الإرادة والصدق لحلها.
ويستدعي المنفى، موضوعاً لا يقل قسوة عنه، وهو إحساس الإنسان بالغربة في وطنه. هي تلك القسوة التي تدفع روبرتا (شبيهة ليلى) للانتحار، بينما تصمد ليلى وتكافح رغم حياتها الصعبة. وكذلك تشعر كريستا صديقة بسام بالوحدة في بلدها وتشكره على اهتمامه بها، وحين تعلم بمرضها العضال تدرك أن مغادرة الحياة هي أصعب من مغادرة أرض ما، وأن على الإنسان أن يدرك قيمة الحياة، وأن يحيا بذكاء أينما كان.
(كاتبة سورية)