10 اغسطس 2015
المهرجان السوري للضحك
نبيل سليمان
هذه مدينة قَلَبَها الضحك على ظهرها، وراحت تبرعط بأيديها وأرجلها، كأنها صرصار ضخم (كركرته) مَحسّة الخيل من خاصرتيه ومن قدميه. إنها المدينة القائمة في والخارجة من رواية هدى بركات (حجر الضحك). إنها بيروت الحرب الأهلية اللبنانية التي دعت لها أمها بطول العمر، فعاشت قرابة خمسة عشر عاماً، إنْ لم نقل إنها لازالت حية ترزق بعد ربع قرن من إعلان حُسْن الختام.
توكيداً للكذبة السورية اللبنانية في الأغنية الفيروزية (سوا ربينا)، هي ذي (بيروتات) روائية وواقعية في سورية الحرب الأهلية أو الكونية أو الثورية أو الانتحارية أو القذرة... سمّ كما تشاء. وقد دعت أمهات هذه الحرب لها بطول العمر، فطحشت حتى الآن على سنتها الخامسة، ولا يعلم إلا العليم سبحانه، متى يكون إعلان حُسْن الختام.
في هذه المدن، البيروتات السورية، ينشب مهرجان من الضحك، يترجّع فيه أعلى فأعلى ما خاطب به غوار الطوشة (دريد لحام) أباه في مسرحية (كاسك يا وطن): صرنا مضحكة يا بيي. وإذا كان غوّار لم يعنِ سورية وحدها، بل عنى العرب طرّاً، فمهرجان الضحك الروائي الواقعي السوري، واللبناني قبله، لا يعنيان فقط سورية ولبنان، بل العرب جميعاً، على الأقل.
يجلجل المهرجان السوري للضحك بالبيان الفصيح، فترى، مثلاً، قيادياً في هيئة التنسيق يمتدح قيادياً في الائتلاف: رأيك ضاحك، ويعني: رأي ظاهر وغير ملتبس، على ذمة ابن منظور. والمدحة هذه تضحك المادح والممدوح اللذيْن قد يكونان أيضاً قيادياً في جماعة الإخوان المسلمين، وصنوه في جبهة النصرة، كما قد يكونان قيادياً في حزب البعث وقيادياً أمنياً.. أما القيادي الإخواني فقد يتدرع بحديث مرفوع "يبعث الله السحاب فيضحك أحسن الضحك". فيصيح به صنوه مقهقهاً: أنت ضُحَكة (كثير الضحك) وضُحْكة (مسخرة). وقد ينتفض شاعر ازدهر سوقه في موسم القتل والتعازي، فيصيح مقهقهاً: تضحك الضبع لقتلى هُذيلٍ، أو: تضحك الضبع من دماء سُليم، ثم يشرع بتبديل (هذيل) و(سُليم) بجوبر أو إشتبرق أو الحولة أو تل أبيض أو الشعيطات أو ...
بالطبع، بطولة المهرجان هي للمسلحين. فالقنّاص يفقع ضحكاً كلما قنصت قنّاصته هدفاً، لا فرق بين مسلّح في فصيل منافس لفصيله، أو في الجيش النظامي، أو في أيّ من المليشيات التي توالدت كالفطر. وسائق البيك آب التي يتربع الرشاش المضاد للطيران في قفصها، يفقع ضحكاً كلما لعلع الرشاش، وكلما لعلع صوت الرامي على الرشاش (حرّكْ) بعد توقف اللعلعة الرشاشية. وقد تكون ضحكة السائق، لأن هذه اللعلعة أصابت الهيليوكبتر، وربما لأنها أخفقت، أو لأن لعلعة الرامي تعجز عن إخفاء هلعه، أو لأن السائق لمح من نافذته الهيليوكبتر تنط مذعورة أعلى فأعلى، أو لأن البرميل الذي رمته وهي تنط قد انفجر بعيداً عن السيارة وعن البيوت التي تتخفى بينها.
لم تعد بيروت أكثر مكان في العالم يضحك فيه الناس، كما تحدّثُ رواية. بل صارت أي مدينة سورية، آمنة أو غير آمنة. هل من مدينة سورية آمنة حقاً؟ أكثر مكان في العالم يضحك فيه الناس. فهذا مُعَفِّشٌ (أي لص) يطلق لضحكته العنان، بعدما ضحك على معلمه، ولطش من حمولة الشاحنة "براد وكرسي دوار وراوتر عدد2". وهذا معفّش كبير، يكاد لكبره أن ينفجر كما تنفجر ضحكته من وعلى تلك الشاحنة، إذ كان هو قد تجاوز منذ شهر الحدود التركية بحمولات من سرب الشاحنات من الشيخ نجار في تخوم حلب (معمل قبضات الأبواب والخزائن، معمل الأكياس البلاستيكية، معمل الصفائح والأسطوانات الحديدية...). وبما أن الموسم هو موسم الحصاد، فمن يوزّع أكياس الخيش الحكومية في الحسكة يضحك من وعلى الذين يتسابقون على الأكياس، لأن حدسه يجزم أن داعش سيسبقهم إلى السنابل الذهبية. ومثل موسم الحصاد هو موسم الفستق الحلبي أو الكرز في غوطة إدلب، وموسم المشمش في الغوطة الدمشقية، حيث تفرقع ضحكات مراسلي الفضائية التي شرعت تنفخ في البوق الطائفي منذ شهور: مراسل يضحك، لأنه لم يفطر ولم يصلّ في المسجد الذي فجّره أحدهم للتوّ في أريحا، ففاز بالنجاة، ومراسل يضحك من وعلى أُسر الذين يتظاهرون مطالبين بإطلاق سراح المعتقلين في سجن التوبة. ومثل هذا المراسل أو ذاك يضحك مذيع في الفضائية نفسها، لأنه أوقع للتو روائياً من العيار الوطني الثقيل في الفخ الطائفي. أما الروائي نفسه ففقع ضحكاً من وعلى الناقد والأكاديمي الموالي الذي طقت مرارته قبل سنوات في مديح هذا الروائي، والآن تطق مرارته في شتم الروائي نفسه.
إنه بلد يضحك، معتقداً أن سلطته لا تضحك. وعملاً بكذبة (سوا ربينا) ليس البلد الضحّاك والمضحاك لبنان، بل سورية، حيث يموت الناس من الضحك، وليس بالكيماوي ولا العبوات الناسفة ولا قذائف الهاون ولا البراميل المتفجرة ولا خطفاً، وحيث الدم الأزرق، نفد الدم الأحمر، يسودّ من الضحك، ولك أن تقلب النظر أو السمع أنّى تشاء، لتصدق. فهذا علي الديك قد التحى وحلق شاربيه وأطلق بعد التوبة أغنية (صلّي الصبح ولكْ علوش) بدلاً من أغنية (الحاصودي) المارقة. وهذا أبو العلاء المعري يبدّل أيضاً في شعره بعدما قصّوا رأس تمثاله في بلده، فأنشد: وشبيه صوت الضحوك إذا ما قيس بصوت النعييّ في كل ناد. وهذا أدونيس يغار من علي الديك، ومن أبي العلاء، فيدع ضحكته تجلجل في جريدة السفير، وهو يتأسى إلى ما آل إليه أتباع الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل، ولا يذكر أتباع الراشدي الرابع، كأن أحداً منهم لم ينقلب إلى مقاتل، لا في حزب الله ولا في الحشد الشعبي ولا في الحرس الثوري ولا في...
إنها سلسلة لا متناهية، إذن: مراقب التموين يضحك على الدكنجي، ورئيس البلدية يضحك على المحافظ، ومدير الأوقاف يضحك على المفتي، والمعتقل يضحك على الجلاد، والمذيعة الأمنية الموالية تضحك على المعارض الماركسي المعتقل سابقاً والمنافس لها حالياً في الأمنية وفي الموالاة و... وأنت يا خليل لماذا لا تضحك؟
وخليل هو بطل رواية (حجر الضحك)، ومنه ومنها أستعير: وأنت يا نبيل لماذا لا تضحك؟
في هذه المدن، البيروتات السورية، ينشب مهرجان من الضحك، يترجّع فيه أعلى فأعلى ما خاطب به غوار الطوشة (دريد لحام) أباه في مسرحية (كاسك يا وطن): صرنا مضحكة يا بيي. وإذا كان غوّار لم يعنِ سورية وحدها، بل عنى العرب طرّاً، فمهرجان الضحك الروائي الواقعي السوري، واللبناني قبله، لا يعنيان فقط سورية ولبنان، بل العرب جميعاً، على الأقل.
يجلجل المهرجان السوري للضحك بالبيان الفصيح، فترى، مثلاً، قيادياً في هيئة التنسيق يمتدح قيادياً في الائتلاف: رأيك ضاحك، ويعني: رأي ظاهر وغير ملتبس، على ذمة ابن منظور. والمدحة هذه تضحك المادح والممدوح اللذيْن قد يكونان أيضاً قيادياً في جماعة الإخوان المسلمين، وصنوه في جبهة النصرة، كما قد يكونان قيادياً في حزب البعث وقيادياً أمنياً.. أما القيادي الإخواني فقد يتدرع بحديث مرفوع "يبعث الله السحاب فيضحك أحسن الضحك". فيصيح به صنوه مقهقهاً: أنت ضُحَكة (كثير الضحك) وضُحْكة (مسخرة). وقد ينتفض شاعر ازدهر سوقه في موسم القتل والتعازي، فيصيح مقهقهاً: تضحك الضبع لقتلى هُذيلٍ، أو: تضحك الضبع من دماء سُليم، ثم يشرع بتبديل (هذيل) و(سُليم) بجوبر أو إشتبرق أو الحولة أو تل أبيض أو الشعيطات أو ...
بالطبع، بطولة المهرجان هي للمسلحين. فالقنّاص يفقع ضحكاً كلما قنصت قنّاصته هدفاً، لا فرق بين مسلّح في فصيل منافس لفصيله، أو في الجيش النظامي، أو في أيّ من المليشيات التي توالدت كالفطر. وسائق البيك آب التي يتربع الرشاش المضاد للطيران في قفصها، يفقع ضحكاً كلما لعلع الرشاش، وكلما لعلع صوت الرامي على الرشاش (حرّكْ) بعد توقف اللعلعة الرشاشية. وقد تكون ضحكة السائق، لأن هذه اللعلعة أصابت الهيليوكبتر، وربما لأنها أخفقت، أو لأن لعلعة الرامي تعجز عن إخفاء هلعه، أو لأن السائق لمح من نافذته الهيليوكبتر تنط مذعورة أعلى فأعلى، أو لأن البرميل الذي رمته وهي تنط قد انفجر بعيداً عن السيارة وعن البيوت التي تتخفى بينها.
لم تعد بيروت أكثر مكان في العالم يضحك فيه الناس، كما تحدّثُ رواية. بل صارت أي مدينة سورية، آمنة أو غير آمنة. هل من مدينة سورية آمنة حقاً؟ أكثر مكان في العالم يضحك فيه الناس. فهذا مُعَفِّشٌ (أي لص) يطلق لضحكته العنان، بعدما ضحك على معلمه، ولطش من حمولة الشاحنة "براد وكرسي دوار وراوتر عدد2". وهذا معفّش كبير، يكاد لكبره أن ينفجر كما تنفجر ضحكته من وعلى تلك الشاحنة، إذ كان هو قد تجاوز منذ شهر الحدود التركية بحمولات من سرب الشاحنات من الشيخ نجار في تخوم حلب (معمل قبضات الأبواب والخزائن، معمل الأكياس البلاستيكية، معمل الصفائح والأسطوانات الحديدية...). وبما أن الموسم هو موسم الحصاد، فمن يوزّع أكياس الخيش الحكومية في الحسكة يضحك من وعلى الذين يتسابقون على الأكياس، لأن حدسه يجزم أن داعش سيسبقهم إلى السنابل الذهبية. ومثل موسم الحصاد هو موسم الفستق الحلبي أو الكرز في غوطة إدلب، وموسم المشمش في الغوطة الدمشقية، حيث تفرقع ضحكات مراسلي الفضائية التي شرعت تنفخ في البوق الطائفي منذ شهور: مراسل يضحك، لأنه لم يفطر ولم يصلّ في المسجد الذي فجّره أحدهم للتوّ في أريحا، ففاز بالنجاة، ومراسل يضحك من وعلى أُسر الذين يتظاهرون مطالبين بإطلاق سراح المعتقلين في سجن التوبة. ومثل هذا المراسل أو ذاك يضحك مذيع في الفضائية نفسها، لأنه أوقع للتو روائياً من العيار الوطني الثقيل في الفخ الطائفي. أما الروائي نفسه ففقع ضحكاً من وعلى الناقد والأكاديمي الموالي الذي طقت مرارته قبل سنوات في مديح هذا الروائي، والآن تطق مرارته في شتم الروائي نفسه.
إنه بلد يضحك، معتقداً أن سلطته لا تضحك. وعملاً بكذبة (سوا ربينا) ليس البلد الضحّاك والمضحاك لبنان، بل سورية، حيث يموت الناس من الضحك، وليس بالكيماوي ولا العبوات الناسفة ولا قذائف الهاون ولا البراميل المتفجرة ولا خطفاً، وحيث الدم الأزرق، نفد الدم الأحمر، يسودّ من الضحك، ولك أن تقلب النظر أو السمع أنّى تشاء، لتصدق. فهذا علي الديك قد التحى وحلق شاربيه وأطلق بعد التوبة أغنية (صلّي الصبح ولكْ علوش) بدلاً من أغنية (الحاصودي) المارقة. وهذا أبو العلاء المعري يبدّل أيضاً في شعره بعدما قصّوا رأس تمثاله في بلده، فأنشد: وشبيه صوت الضحوك إذا ما قيس بصوت النعييّ في كل ناد. وهذا أدونيس يغار من علي الديك، ومن أبي العلاء، فيدع ضحكته تجلجل في جريدة السفير، وهو يتأسى إلى ما آل إليه أتباع الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل، ولا يذكر أتباع الراشدي الرابع، كأن أحداً منهم لم ينقلب إلى مقاتل، لا في حزب الله ولا في الحشد الشعبي ولا في الحرس الثوري ولا في...
إنها سلسلة لا متناهية، إذن: مراقب التموين يضحك على الدكنجي، ورئيس البلدية يضحك على المحافظ، ومدير الأوقاف يضحك على المفتي، والمعتقل يضحك على الجلاد، والمذيعة الأمنية الموالية تضحك على المعارض الماركسي المعتقل سابقاً والمنافس لها حالياً في الأمنية وفي الموالاة و... وأنت يا خليل لماذا لا تضحك؟
وخليل هو بطل رواية (حجر الضحك)، ومنه ومنها أستعير: وأنت يا نبيل لماذا لا تضحك؟
دلالات