17 يوليو 2015
ثقافة القصْل..
نبيل سليمان
القصل في (لسان العرب) هو القطع، وقَصَل فلان عنقك: ضربها. أما النحر فهو الذبح، ومنه: النحر في اللبّة مثل الذبح في الحلق. والقصل والنحر إذن هما الذبح، أي قطع الحلقوم من باطن عند النصيل. ولا تنسوا أن تلاقوا الضيف بهذه التحية: حيّا الله هذه الذُّبْحة، أي هذه الطلعة، ولا تنسوا بخاصة أن كل شيء في البحر مذبوح، أي ذكيّ لا يحتاج إلى الذبح، مثلنا الآن أم بخلافنا؟
تطاول علينا ليل الديكتاتوريات من كل صنف ولون، ما جعل ثقافة الخوف المكينة في تراثنا ونفوسنا، تزدهر. وها هو الحديث في ثقافة القصْل /النحر/ الذبح، يزدهر، وهي الثقافة الموصولة بحبل السرة مع ثقافة الخوف، لكنها أقلّ مكنة في ماضينا وحاضرنا. والأمر، بالطبع، لا يتعلق بنا وحدنا، فتاريخ البشرية زاخر بأفانين التوحش. وها هي فرانسيس لارسن تقدم في كتابها الطازج (تاريخ الرؤوس المفقودة والرؤوس الموجودة) نماذج مختلفة، قديمة وحديثة، لقطع الرؤوس. وقد أدركت لارسن عميقاً هذا الهوس المرضي الشائع في مختلف الحضارات، عبر عملها في متحف للرؤوس المقصولة، ما أعطى كتابها عنوانه المذكور، بالترجمة الحرفية، أما بالترجمة بتصرف، فلعل العنوان الأَوْلى هو: (تاريخ الرؤوس المقصولة، أو المقطوعة): هل تذكرون تعليق رؤوس الهنود الحمر زينة؟
بعد الجلجلة الداعشية التي فاق فيها الواقع كل خيال، وجدتني أدقق في بعض سردياتنا وأخيولاتنا الحديثة لذبح الإنسان الإنسان، ربما فراراً من المشهديات الداعشية، أو من أجل أن أصدق ما أرى. وقد أسرعت بي الذاكرة إلى رواية اللبناني أمين أرسلان (أسرار القصور) والتي صدرت عام 1897، عن ذبح قنصلي فرنسا وروسيا في سالونيك في 7/5/1876، بسبب بلغارية أسلمت، ولم تلبث "حتى ثقل عليها الاحتجاب، ولم تطق معيشة الحرم، فعادت إلى سالونيك ملتجئة إلى قنصل روسيا"، فهاج المسلمون، فمضى القنصلان الشابان المحبوبان إلى الجامع، قصد التهدئة، وكان ما كان.
والقصْل حاضر، إذن، في الرواية العربية منذ فجرها. ولعل أحداً لازال يذكر من رواية الطاهر وطار (اللاز- 1974)، كيف ذبح الإسلاميُّ الشيوعيَّ (زيدان) والاثنان مناضلان في جبهة التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. وقد تواتر حضور القصْل فيما كتبت الرواية الجزائرية خلال العقدين الماضيين. وحسبي الإشارة إلى مثال واحد، هو رواية إسماعيل يبرير (باردة كأنثى- 2013)، حيث يعثر عند مدخل السوق على رأس معارض للإسلاميين، وعلى رأس أستاذ فلسفة. ولأن الجثة غائبة، شيّع الرأس وحيداً.
ليس هناك أقسى وأبشع وأذلّ من أن تذبح رجلاً وهو في عزّ النوم، كالفرّوج: هكذا يقول عبدالله الذي حملت اسمه رواية للتونسي الحبيب السالمي، هي (أسرار عبدالله). وهذا الذي كان دركياً شهد جرائم شتى، منها ذبح رجل امرأته. وقد سكن الرعب عبدالله، لأن عصابة من الأغراب (الغرابة) ذبحت واحداً من الأعيان، كان دركياً كعبد الله. أما الغرابة، فربما كانوا مقاومين للاستعمار الفرنسي، أو من المتعاملين مع الاستعمار (الفلاقة)، ومهما يكن، فها هو الذبح يوحّد بينهم.
من اليمن، تذهب الإشارة إلى رواية علي المقري (بخور عدني) التي تعود عقوداً لترسم الذبيحين – الذبيحتين: العارف وقبوة زوجته اللذيْن عثر في ميدان كريتر على رأسيهما مفصولين، ومرميين إلى جوار جسديهما المقطعين.
وبالوصول إلى (المسلخ السوري)، تتدافر الذبائح في الروايات، كما في الواقع. فهذه امرأة تذبح زوجها بعد نصف ساعة من الوضع (رواية حارس الخديعة لخالد خليفة)، وهذا طفل محزوز الرقبة، وهذا رأس لطفل يتدحرج مثل كرة الصبيان، وهذا شاويش يتأمل: الحزّة حزّة معلم، حزّة واحدة فصلت الرقبة عن المنكب، والحزّ والفَصل ــ أي القصْل ــ تمّا والطفل حيّ، وذلك كله كان في زمن استيلاء إبراهيم باشا على الشام (رواية الإصبع السادسة لخيري الذهبي). وفي رواية فواز حداد (جنود الله)، وفيما يتعلق بالإرهاب التكفيري إبّان الاحتلال الأميركي للعراق، نقرأ: "إلى الجدران علقت الأدوات المستخدمة من سكاكين وسيوف ومجالخ ومثاقب ومناشير كهربائية ملطخة بالدم الأسود. تندر رؤية جسد متصل برأس، وإنما أجساد عارية تبدو كأنها ذبحت للتو، لا يسترها سوى بقايا أسمال بالية وممزقة ورؤوس متدحرجة مبعثرة في الأرجاء".
ولأن لثقافة القصل جذرها المكين في التراث، مثل ثقافة الخوف، فقد حضر إلى روايتي (المسلّة- 1980) خالد بن عبدالله القسري، ليذبح بيده، في عيد الأضحى، الجعد بن درهم قائد جيش المرجئة. وإلى رواية (سمر الليالي- 2000)، ومن بطون مصنفات ابن الجوزي وابن قدامة وابن النديم وابن هشام والمقريزي و... حضرت صنوف الذبح البطيء، أي التعذيب بالحرق والشيّ والجدع والصلب والقرض والسلخ.. كما حضر القصل الذي لازال يقصر عنه القصل الداعشي. فهذا الخليفة المهدي يشطر بسيفه البتّار جسد الشاعر صالح بن عبد القدوس، وهذا هارون الرشيد يأمر بتقطيع جسد الخارجيّ، بشر بن الليث، بسكين غير حادة، وهذه حديقة قصر المعتمد بن عباد مزروعة بالرؤوس المقطوعة، مثل متحف فرانسيس لارسن.
في الركام الذي لديّ من الجذاذات (القصاصات – البطاقات) أودعتُ واحدة توثق الفيديو الذي صورته سنة 2004 جماعة التوحيد والجهاد، وظهر فيه أبو مصعب الزرقاوي (أحمد فضل نزال الخلايلة 1966-2006) يذبح الرهينة الأميركية، يوجين أرمسترونغ. وثمة بطاقتان تخصان جماعة أبو سياف التي اشتهرت بقطع الرؤوس، وأعلنت، العام الماضي، ولاءها لداعش. وفي ذلك الركام كثير مما يتطامن أمام ما بات يجود به أي محرك للبحث عن ذبح الإنسان الإنسان، فلماذا يتلعثم حديثنا، إذن، في ثقافة القصل، مذكّراً بما طال من التلعثم في حديث ثقافة الخوف؟ هل هو الخوف من تراثنا؟ أم هو الخوف من داعش؟ هل هو الخوف من أن تصيب داعش بعدوى القصل أصناءها من المتجلببين بجلباب الدين أو العسكرة أو أي جلباب؟ وباختصار: هل هو الخوف من أن يستفيق فينا الوحش، كما لم يستفق حتى الآن؟
بعد الجلجلة الداعشية التي فاق فيها الواقع كل خيال، وجدتني أدقق في بعض سردياتنا وأخيولاتنا الحديثة لذبح الإنسان الإنسان، ربما فراراً من المشهديات الداعشية، أو من أجل أن أصدق ما أرى. وقد أسرعت بي الذاكرة إلى رواية اللبناني أمين أرسلان (أسرار القصور) والتي صدرت عام 1897، عن ذبح قنصلي فرنسا وروسيا في سالونيك في 7/5/1876، بسبب بلغارية أسلمت، ولم تلبث "حتى ثقل عليها الاحتجاب، ولم تطق معيشة الحرم، فعادت إلى سالونيك ملتجئة إلى قنصل روسيا"، فهاج المسلمون، فمضى القنصلان الشابان المحبوبان إلى الجامع، قصد التهدئة، وكان ما كان.
والقصْل حاضر، إذن، في الرواية العربية منذ فجرها. ولعل أحداً لازال يذكر من رواية الطاهر وطار (اللاز- 1974)، كيف ذبح الإسلاميُّ الشيوعيَّ (زيدان) والاثنان مناضلان في جبهة التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. وقد تواتر حضور القصْل فيما كتبت الرواية الجزائرية خلال العقدين الماضيين. وحسبي الإشارة إلى مثال واحد، هو رواية إسماعيل يبرير (باردة كأنثى- 2013)، حيث يعثر عند مدخل السوق على رأس معارض للإسلاميين، وعلى رأس أستاذ فلسفة. ولأن الجثة غائبة، شيّع الرأس وحيداً.
ليس هناك أقسى وأبشع وأذلّ من أن تذبح رجلاً وهو في عزّ النوم، كالفرّوج: هكذا يقول عبدالله الذي حملت اسمه رواية للتونسي الحبيب السالمي، هي (أسرار عبدالله). وهذا الذي كان دركياً شهد جرائم شتى، منها ذبح رجل امرأته. وقد سكن الرعب عبدالله، لأن عصابة من الأغراب (الغرابة) ذبحت واحداً من الأعيان، كان دركياً كعبد الله. أما الغرابة، فربما كانوا مقاومين للاستعمار الفرنسي، أو من المتعاملين مع الاستعمار (الفلاقة)، ومهما يكن، فها هو الذبح يوحّد بينهم.
من اليمن، تذهب الإشارة إلى رواية علي المقري (بخور عدني) التي تعود عقوداً لترسم الذبيحين – الذبيحتين: العارف وقبوة زوجته اللذيْن عثر في ميدان كريتر على رأسيهما مفصولين، ومرميين إلى جوار جسديهما المقطعين.
وبالوصول إلى (المسلخ السوري)، تتدافر الذبائح في الروايات، كما في الواقع. فهذه امرأة تذبح زوجها بعد نصف ساعة من الوضع (رواية حارس الخديعة لخالد خليفة)، وهذا طفل محزوز الرقبة، وهذا رأس لطفل يتدحرج مثل كرة الصبيان، وهذا شاويش يتأمل: الحزّة حزّة معلم، حزّة واحدة فصلت الرقبة عن المنكب، والحزّ والفَصل ــ أي القصْل ــ تمّا والطفل حيّ، وذلك كله كان في زمن استيلاء إبراهيم باشا على الشام (رواية الإصبع السادسة لخيري الذهبي). وفي رواية فواز حداد (جنود الله)، وفيما يتعلق بالإرهاب التكفيري إبّان الاحتلال الأميركي للعراق، نقرأ: "إلى الجدران علقت الأدوات المستخدمة من سكاكين وسيوف ومجالخ ومثاقب ومناشير كهربائية ملطخة بالدم الأسود. تندر رؤية جسد متصل برأس، وإنما أجساد عارية تبدو كأنها ذبحت للتو، لا يسترها سوى بقايا أسمال بالية وممزقة ورؤوس متدحرجة مبعثرة في الأرجاء".
ولأن لثقافة القصل جذرها المكين في التراث، مثل ثقافة الخوف، فقد حضر إلى روايتي (المسلّة- 1980) خالد بن عبدالله القسري، ليذبح بيده، في عيد الأضحى، الجعد بن درهم قائد جيش المرجئة. وإلى رواية (سمر الليالي- 2000)، ومن بطون مصنفات ابن الجوزي وابن قدامة وابن النديم وابن هشام والمقريزي و... حضرت صنوف الذبح البطيء، أي التعذيب بالحرق والشيّ والجدع والصلب والقرض والسلخ.. كما حضر القصل الذي لازال يقصر عنه القصل الداعشي. فهذا الخليفة المهدي يشطر بسيفه البتّار جسد الشاعر صالح بن عبد القدوس، وهذا هارون الرشيد يأمر بتقطيع جسد الخارجيّ، بشر بن الليث، بسكين غير حادة، وهذه حديقة قصر المعتمد بن عباد مزروعة بالرؤوس المقطوعة، مثل متحف فرانسيس لارسن.
في الركام الذي لديّ من الجذاذات (القصاصات – البطاقات) أودعتُ واحدة توثق الفيديو الذي صورته سنة 2004 جماعة التوحيد والجهاد، وظهر فيه أبو مصعب الزرقاوي (أحمد فضل نزال الخلايلة 1966-2006) يذبح الرهينة الأميركية، يوجين أرمسترونغ. وثمة بطاقتان تخصان جماعة أبو سياف التي اشتهرت بقطع الرؤوس، وأعلنت، العام الماضي، ولاءها لداعش. وفي ذلك الركام كثير مما يتطامن أمام ما بات يجود به أي محرك للبحث عن ذبح الإنسان الإنسان، فلماذا يتلعثم حديثنا، إذن، في ثقافة القصل، مذكّراً بما طال من التلعثم في حديث ثقافة الخوف؟ هل هو الخوف من تراثنا؟ أم هو الخوف من داعش؟ هل هو الخوف من أن تصيب داعش بعدوى القصل أصناءها من المتجلببين بجلباب الدين أو العسكرة أو أي جلباب؟ وباختصار: هل هو الخوف من أن يستفيق فينا الوحش، كما لم يستفق حتى الآن؟
دلالات