الموروث الثقافي وأثره في التطوّر السياسي
يعتبر طرح الديمقراطية في الوطن العربي طرحاً مضاعفاً، ليس فقط لغيابها على أرض الواقع فحسب، بل، أيضاً، لأن التاريخ الاجتماعي والسياسي والفكري للمجتمع العربي لم يؤسس لثقافة سياسيةٍ من شأنها أن تمهّد الطريق، على الأقل نظرياً، لضرب من الفكر السياسي المؤدي إلى الديمقراطية، كما الحال في أوروبا الغربية.
وهذه النقطة على غاية من الأهمية، على الرغم من أن العلاقة بين الموروث الثقافي وعملية الانتقال إلى الحداثة ليست سببية، أي أن الأول ليس سبباً ضرورياً للثانية، ولكن، مع ذلك، يشكل الموروث الثقافي، أو الثقافة السياسية، شرطاً ضرورياً لتلك العملية، مع التفريق الواضح بين السبب والشرط.
بعبارة أخرى، لا يجب الوقوع في فخ منظّرين عرب وأجانب حوّلوا الثقافة إلى معطى ثابت فوق التاريخ ملتصق بالهوية، وبموجبه يصبح سلوك الناس مرتبطاً مباشرة بطبائعهم، وقد اتُّخذت هذه المقولات غير العلمية حجة لدى الأنظمة الاستبدادية العربية للهروب من الإصلاح السياسي، بعنوان أن الشعب غير جاهز ثقافياً للديمقراطية.
وقد خصّص عزمي بشارة، في كتابه "المسألة العربية"، فصلاً لتفنيد هذه النظرية ومخاطرها في الحالة العربية، حيث يقول: "المشكلة تكمن في اعتماد الثقافة وحدها، أو افتراضها ثابتة ومرتبطة بجماعات بشرية، مثل صفة ثابتة على نمط مصطلح العقلية، وتحويل مركبات حضارية، وتقاليد وإرث ثقافي، إلى ثقافة سياسية، واعتبارها كياناً ثابتاً، كما هو الحال لدى صموئيل هانتنغتون وبرنارد لويس".
ومع ذلك، يعترف بشارة بأنه لا يجب، في المقابل، التخفيف من أهمية الثقافة السياسية والموروث السياسي في عملية التغيير. يقول محمد عابد الجابري، في كتابه المهمّ "العقل السياسي العربي"، إن العقل السياسي، ممارسةً وأيديولوجيا، هو في الحالتين ظاهرة جمعية، إنما يجد مرجعيته في المخيال الاجتماعي، وليس في النظام المعرفي، فالمخيال الاجتماعي، بما هو منظومة من البداهات والمعايير والقيم والرموز، ليس ميداناً لتحصيل المعرفة، بل هو مجال لاكتساب القناعات، مجال تسود فيه حالة الإيمان والاعتقاد.
هل علينا التذكير، على سبيل المثال، بأهمية تأثير الموروث الثقافي، أو الفقه السياسي الإسلامي الموروث، المتمثل بالأحكام السلطانية والسياسة الشرعية اللتين شرعتا، طوال قرون، لنظام الضرورة، أي لنظام المُلْك العضوض؟ فالخشية من العصيان والفوضى، دفعت الفقهاء إلى تطوير نظرية للشرعية، تؤدي إلى إدراك السياسي خارج الإطار الشرعي، طالما أن إمارة الاستيلاء والتغلّب تحقق أمرين: الكفاية، وتعني العدالة ومنع أية محاولة للفتنة، والشوكة، وتعني التصدي للعدو الخارجي. وفي هذا التقليد السني لا أهمية للطريقة التي توصل إلى السلطة، طالما أنها، أي السلطة الجديدة، قادرة على تحقيق الهدفين اللذين يحفظان وحدة الأمة (الكفاية، الشوكة)، وقد أسس لهذا التقليد كبار العلماء والفقهاء السنّة، بدءاً من ابن حنبل، وانتهاءً بابن تيميّة، مروراً بالماوردي والجويني والغزالي، الذين حددوا الحكم بمقاصده، لا بطبيعته وأصوله.
وبحسب هذا المفهوم، يجب تحمّل مساوئ الحكم، شرط محافظة الحاكم على ممارسة الإسلام. وباستثناء الجاحظ، الذي خالف هذا التقليد، بدعوته خلع الخليفة الظالم، ما زال هذا التقليد الفقهي السياسي مستمراً، ومثاله الأبرز على مستوى الثقافة، البوطي في سورية، وشيخ الأزهر أحمد الطيب في مصر، والصادق الغرياني والمدني الشويرف في ليبيا، وجمعية علماء اليمن في اليمن، كما نجد هذا التقليد مستمراً على مستوى الثقافة الشعبية، لدى جزء كبير من الشارع العربي الذي وجد في الثورات فتنةً تهدد الأمة.
بكل الأحوال، لم يستطع الفكر السياسي الإسلامي، بناءً على هذا التقليد الفكري من جهة، وطبيعة التمفصلات السياسية والاقتصادية التاريخية من جهة ثانية، الوصول إلى حد إدراك مفهوم السيادة، المُعبَّر عنه بالشخصية المعنوية، أو المشرّع الأعلى، ذي القوة السيّدة، كما حدث في الغرب، فالسيادة في الإسلام هي للشرع ليس إلا. ومن هنا، لا يمكن البحث عن صيغة تحدد فكرة السلطة في التراث السياسي الإسلامي، ولذلك، يتم الاكتفاء بفكرة الشرعية، والجهد المبذول يتجه نحو تأسيس تشريع الضرورة السياسية، المتمثلة بالإمارة القائمة مع الاستمرار في وعظ الأمير، للاقتراب من الشرع، كما الحال لدى الفقهاء، أو من خلال البحث عن المدينة المثالية، كما الحال لدى الفارابي وابن سينا.
ومن هنا أيضاً، اختزل الصراع في التاريخ الإسلامي بين السلطة القائمة والمعارضة بشأن مدى اقتراب السلطة الحاكمة من الشرع، أو ابتعادها عنه، وهو التقليد المستمر حتى أيامنا، المتمثل بمعارضة الأنظمة، لا للطريقة التي وصلت بها إلى الحكم، بل لأنها خالفت مبادئ الإسلام لدى بعضهم، والمبادئ الإنسانية لدى آخرين.
غياب مبدأ السيادة جعل عمل المعارضة الاجتماعي لا يتغذّى من المطالبة بممارسة السلطة، ولا بعملية إيجاد سياسة بديلة، بقدر ما ينحصر الأمر بتجديد دفق الدم في السياسة، بحسب المفكر الفرنسي برتران بادي، وبالتالي، تصبح مطالب المعارضة ركيزة للتعبير عن المصالح. ولهذا السبب، يمكن للمعارضة أن تنزلق بسهولة باتجاه الهياج الشعبي، ولا تصل أبداً إلى مستوى بناء نفسها كمطلب.
هذا الموروث الثقافي على المستوى السياسي الذي استعرضنا جانباً منه، ما زال جاثماً ومؤثراً في السلوك السياسي العربي، على المستويين الرسمي والشعبي، والأمر يتطلّب تعديل هذا الموروث، عبر تطوير المفاهيم، كما فعل الغرب في المفترق التاريخي من العصور الوسطى والحداثة، حين أعاد صياغة المقولات السياسية من جديد: فالملكية لم تعد مبررة بتوافقها مع القانون الطبيعي، بل بالمنفعة، والسلطة لم تعد تعبيراً عن نظام عقلي محدد مسبقاً، بل أصبحت مبنية على تجريبية البشر الفاعلين، ولم يعد الحق الذاتي تعبيراً عن حق طبيعي، بل هو إقرار بمحمول الإنسان.
لم تنتقل أوروبا من العصور الوسطى إلى الحداثة دفعة واحدة، إذ لا يوجد في السياق التاريخي لتطور المجتمعات تلك القطيعة الإبستمولوجية التي تحدث عنها غاستون باشلار وتوماس كون في العلوم الطبيعية، بل كان الانتقال يجري عبر تداخل الحديث بالقديم، بإعادة إحياء الموروث اليوناني ـ الروماني، لمواجهة الكنيسة والإقطاع لمصلحة السلطة الزمنية السيدة.
وكان لفلسفة أرسطو السياسية والقانون الروماني وبعض المفاهيم السياسية السائدة في العصور الوسطى، كالميثاق أو العقد، القانون الطبيعي، الحق الطبيعي، قانون التولية.. إلخ. وبعض المفاهيم الآتية من الثقافة الإسلامية، دوراً استراتيجياً في عملية الانتقال من العصور الوسطى إلى الحداثة.