بزغ نجم تونس ثانية، بعد أن كانت مُحرّك الضّمائر العربيّة التّائقة للتحرّر من سطوة الأنظمة الجاثمة على صدور شعوبها، عبر ابنها المهندس محمد الزواري (49 سنة)، الذي اغتالته يد الغدر في مسقط رأسه، أمام منزله، وداخل سيارته، في مدينة صفاقس (جنوبي تونس)، بعد تلقيه ثماني رصاصات غادرة، ليتأكّد لاحقًا ضلوع الموساد الإسرائيلي في تصفيته، بعد بيان كتائب القسّام وتداول الموضوع بما يُشبه الاعتراف غير الرسمي في قنوات دولة الاحتلال.
وجاء إعلان القسّام الذي قطع كل التخمينات حول خلفيات اغتيال المهندس التونسي، يومين بعد اكتشاف حادثة اغتياله، لتتأكّد رائحة الفعل الاستخباراتي للعملية الذي فاح منذ البداية، لكن ظل يحتاج للدليل القاطع الذي يؤكّد أن هذا المهندس التونسي الذي هاجر قسريًا من تونس في التسعينات، بعد حملة الاستهداف التي شنّها نظام بن علي على الإسلاميين، لينتقل بين ليبيا والسودان وسورية، وينضم لكتائب القسّام منذ عشر سنوات، مساندًا المقاومة في صمت وتكتم شديدين، إلى درجة أن زوجته لم تكن تعلم عن أمره شيئًا، بحسب ما صرّحت به عقب حادثة الاغتيال.
وبعيدًا عن السّخط الذي شهده الرّأي العام في تونس، مع تذبذب موقف السلطات الرّسمية بخصوص هذه الحادثة والتي ما زالت - إلى غاية كتابة هذه الأسطر- لم تطلق عليه حتى وصف شهيد، على الرغم من أن فصول العملية ساهمت في إنعاش الذّاكرة الجمعيّة التونسية التي لم تخل في فترات مُتباعدة من اغتيالات نفّذتها مُخابرات دُول أجنبية على أرضها.
فرحات حشّاد والمخابرات الفرنسية
فرحات حشّاد، المُناضل النّقابي المعروف والأمين العام الأوّل لمنظمة الاتحاد العام التونسي للشّغل، تم اغتياله في الشّهر نفسه الذي اغتيل فيه الزواري، يوم 5 ديسمبر/ كانون الأوّل 1952، بعد عجز الاحتلال الفرنسي عن سجنه أو نفيه كما فعل مع قادة الحركة الوطنية المُطالبة بالاستقلال وقتها، بالنّظر لما اكتسبه من حصانة وإشعاع في الأوساط النقابية العمالية في الولايات المتحدة الأميركية وباقي دول العالم.
وفي تطابق عجيب في الأسلوب على الرغم من اختلاف الجُناة، أوعزت السلطات الفرنسية بضرورة اغتيال هذا الشخص الذي كان يُهدّد مصالح فرنسا في شمال أفريقيا، وفق تعبير صحيفة "باريس" في افتتاحيتها، أسبوعًا قبل تنفيذ الاغتيال، داعية إلى ما سمته وقتها بضرورة اقتلاع رأس هذا البلاء انتصارًا "للحياة والكرامة والشرف الفرنسي".
وفي اليوم المُقرّر لتنفيذ الاغتيال، تبعت فرحات حشاد سيارة في الطريق من الضاحية التي كان يقطنها خارج العاصمة تونس، وأطلقوا عليه النار ثم هربوا. إلا أنه أصيب في ذراعه وكتفه فقط، وتمكّن من الخروج من السيارة، وبعدها بثوانٍ، ظهرت سيارة أخرى وأجهزت عليه بإطلاق النار على رأسه ثم إلقائه على جانب الطريق بعد التأكد من موته.
وعندما أُعلن نبأ اغتياله على الراديو في الظهيرة، اجتاحت المظاهرات مدن العالم من الدار البيضاء إلى القاهرة ودمشق وبيروت وكراتشي وجاكارتا، وامتدت أيضًا إلى مدن أوروبية مثل ميلانو وبروكسل وستوكهولم واشتعلت في الدار البيضاء أعمال عنف راح ضحيتها ما يقارب الأربعين شخصًا.
وأظهر فيلم وثائقي بثته قناة الجزيرة الوثائقية نهاية عام 2009، الفرنسي أنطوان ميليرو، أحد مدبّري اغتيال الزعيم التونسي وهو يروي تفاصيل الإعداد لتلك العملية ووقائع تنفيذها.
كما صرّح في الفيلم نفسه، أنه لو طلب منه إعادة تنفيذ العملية لكرّرها، وهو ما اعتبره حقوقيون ومحامون اعترافًا بارتكاب جريمة حرب وتباهيًا بها. وبادر الاتحاد العام التونسي للشغل وعائلة الضحية ومنظّمات فرنسية في مارس/ آذار 2010 إلى تقديم شكاوى لدى القضاء الفرنسي ضد ميليرو استنادًا إلى وثيقة اعترافه التي تم بثّها، لكن صدر بعد ذلك حكم قضائي يرفضها جميعًا.
وعند زيارة الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، إلى تونس في 5 جويلية/ يوليو 2013، سلّم وثائق أرشيفية متأتية من وزارة الخارجية والدفاع الفرنسيتين، يتبيّن منها أن عملية الاغتيال تمت بواسطة مصلحة التوثيق الخارجي ومكافحة التجسّس التابعة للاستخبارات الفرنسية، وأن هناك فريق عمليات كان يطلق عليه "اليد الحمراء"، أرسل من باريس لمراقبة تحرّكات فرحات حشّاد، وأن عملية الاغتيال قد تقرّرت قبل سبعة أشهر.
من قتل بلعيد والبراهمي؟
وبعيدًا عن السفر في الزمن، شهدت تونس سنة 2013 اغتيالًا سياسيًا أقام الدّنيا ولم يقعدها، راح ضحيّته المحامي والقيادي اليساري، شكري بلعيد، يوم 6 فيفري/شباط، أعقبه اغتيال ثان في السنة نفسها يوم 25 جويلية/ تموز، استهدف النائب البرلماني محمد البراهمي، اغتيالان ساهما في قلب المشهد السياسي التونسي رأسًا على عقب، وأدّى لاستقالة الحكومة وتعويضها بحكومة كفاءات غير متحزّبة.
وعلى الرغم من أن أبحاث السلط التونسية، انتهت إلى تورّط تنظيم أنصار الشريعة في هذه العملية، وهو تنظيم محظور وتم تصنيفه "إرهابيًا" يوم 27 أوت/ آب 2013، إلا أن طبيعة المُستهدفين وتوقيت العمليات ورمزيتها أحال لوجود عقل استخباراتي أجاد تحريك هذا التنظيم الجهادي بغرض تقويض تجربة الانتقال الدّيمقراطي في تونس، والتي لم ترق لبعض المُتدخّلين الدّوليين في المنطقة.
أحمد الرويسي المُكنّى بأبي زكرياء التونسي، وأحد أمراء داعش في طرابلس، هو المسؤول الأوّل على عمليات الاغتيال بحسب رواية وزارة الدّاخلية في تونس، ومما ثبّت الشكوك حول وجود أيادي استخباراتية في الموضوع برمّته، هي تفاصيل حياة الرويسي، الذي لقي حتفه في شهر مارس/ آذار 2015 في سرت الليبية خلال اشتباك قوات فجر ليبيا مع تنظيم الدّولة.
الرويسي كان مُجرّد عرّاف يملك محلّا لقراءة الطّالع، وكان من بين القلّة الذين يتردّدون على قصر قرطاج الرّئاسي، ليقرأ طالع السيّدة الأولى في عهد نظام بن علي، وفق شهادة الصحافي عمار النميري الذي جمعته علاقة صداقة سابقة معه.
وفي سنة 2006، ولأسباب مجهولة، حتى الآن، رفعت ليلى بن علي حصانتها على العرّاف الذي كان مشهوراً وقتها بلقب إيليوس، ليقبض عليه في قضية حيازة مُخدّرات ثم الحكم عليه بالسجن لمدّة 14 عامًا. وخلال أحداث الثّورة التونسية، وبطريقة ما، تم إخراج الرويسي من سجن برج العامري القريب من العاصمة، على الرغم من أن الأخير كان من بين السّجون القليلة التي لم تفتح أبوابها للمساجين للسماح لهم بالهروب (الحادثة لا تزال تفاصيلها غامضة حتى الآن).
وبمجرّد خروجه أو إخراجه من السّجن، التحق العرّاف الذي كان معروفًا في الحي الذي كان يقطنه بأنه مدمن خمر، بأنصار الشريعة، مستغلًا، على ما يبدو، العلاقات التي أنشأها مع من التقاهم داخل السجن من ذوي التوجّه السلفي لجعله يخترق هذا التنظيم عبر إقناعهم بأنه تاب وأنه نادم على ممارساته القديمة.
هذا التحوّل الدراماتيكي من عرّاف السيدة الأولى وقارئ طالعها، إلى تمكّنه من ربط شبكة علاقات ببلاط الحكم، إلى أمير في "داعش"، إذا ما أضفنا له نقاط الاستفهام التي طرحتها مسألة خروجه أو إخراجه من السّجن، وما رشح عن مصادر أمنية ليبية، بأنه كانت له تقاطعات مع شخصيّة عُرفت باحترافها في صنع الفوضى والاغتيالات، يُرجّح بقوّة فرضيّة أن "داعش" لم يكن سوى غطاء تنفيذي لجهد استخباراتي، عاث في تونس والمنطقة فسادًا.