مثّل البرنامج نافذة تلفزيونية لذلك الأرخبيل الثقافي الذي أسّسه ورعاه وحماه عاشقُ موسيقى آخر كبير، هو صلحي الوادي (1934 - 2007). ضم معهدين موسيقيين لليافعين في كل من دمشق وحلب، ثم آخر عالياً للدراسة بعدَ الثانوية حوى قسماً لرقص الباليه، فرقة لموسيقى الحجرة تمخّضت عنها الأوركسترا السيمفونية الوطنية، والتي استمرت في تقديم الأماسي الموسيقية الكلاسيكية على مسرح قاعة مهيبة للمؤتمرات الرسمية، جنوبي العاصمة، إلى أن افتُتحت أخيراً دار الأوبرا في دمشق سنة 2004.
اشتهر فاهيه تمزجيان بإطلالته الجدية والوقورة على شاشة التلفزيون العربي السوري، وبفُصحى مُنمّقة ميّزتها تعابير خارجة عن الدارج، كقوله: "تلكم كانت السيمفونية كذا للمؤلف الفلاني، ذلكم كان الكونشرتو رقم كذا للمؤلف فلان".
لم يعكس تمزجيان ميلانكوليا الأجواء السورية إبان تجربة حزب البعث الاشتراكية إلى يسارِ أيديولوجيات الحرب الباردة العابرة للمحليات وحسب، إنما أيضاً المناخ السائد آنذاك، لجهة اعتبار الموسيقى الكلاسيكية لغة العالم، والنظر إليها كواجهة ثقافية علمانية ومعين فكري جاد و"هادف"، بحسب توصيفات المرحلة، مُوجّه نحو طبقة وسطى، كان من المأمول والمنتظر أن تنمو اتساعاً.
ثم صدر قانون الاستثمار الشهير رقم عشرة أواخر التسعينيات. بموجبه، سار النظام في سورية نحو ما رُوِّج له وقتها على أنه انفتاح تدريجي على اقتصاد السوق. رحل صلحي الوادي في مطلع الألفية، وخبا أثر التلفزيون الرسمي ذي القناتين بالتوازي مع بزوغ الأقمار الفضائية. تصدر المشهد الفني عموماً، والموسيقي خصوصاً، جيل جديد أراد أن ينفتح على الجمهور العريض، نازعاً عنه صفة النخبوية، مُتحدثاً إليه - ولمَ لا؟ - بلغة "المبيعات" Sales لا "لغة العالم"، مفضلاً بدلاً من جذبه، الانجذاب إليه.
لم يكن لجيل "لغة العالم" أن يربط الموسيقى الكلاسيكية على نحو واعٍ مُباشر بأفلام الرسوم المتحركة، اللهم سوى تلك المسوخ القروسطية العجيبة، التي كانت تظهر مقتطفاتٍ أثناء شارة البرنامج تعود بالأصل إلى إنتاجٍ تلفزيوني عام 1975 للفرنسي جان بيير بونّيل أخرج فيه "كارمينا بورانا" Carmina Burana، تلك المشهدية الغنائية المعروفة للمؤلف والمربي الموسيقي الألماني كارل أورف Carl Orff 1895-1982، بها يستلهم الميثولوجيا الأوروبية.
أضف إلى ذلك، ربما، ومن باب الهزل، خمسٌ من حلقات سلسلة الرسوم المتحركة الأميركية من مطاردات القط والفأر، "توم وجيري" جرى فيها استخدام مقطوعات كلاسيكية شائعة ضمن موضوعات ترفيهية ساخرة من الأوركسترا وقائدها ومن آلة البيانو وعازفه.
لئن أدّت فرق أوركسترالية، في ما مضى، المادة الصوتية المصاحبة، ليس لأفلام الرسوم المُتحركة فقط، وإنما للسينما أيضاً، وحتى النشرات الإخبارية والتقارير الإذاعية والتلفزيونية، فذلك لكونها المصنع الموسيقي الوحيد المتاح إلى حين ظهور المؤثرات الإلكترونية منتصف القرن الماضي. لا ريب في أن الطيف التعبيري الشاسع الذي بلغته الأوركسترا إبان الحقبة الرومانسية المتأخرة بإبداع مؤلفين كـ فاغنر Richard Wagner، وليست Franz Liszt وبرليوز Hector Berlioz، قد أمكن استثماره في خدمة الصورة والحكاية المروية في إطارها، إلا أن الأوركسترا ضمن هذا السياق تظل محض أداة، ولا تعكس في أي حال جوهر الموسيقى الكلاسيكية وأثرها الكامل بوصفها شكلاً فنياً ومضموناً فكرياً وتجربة روحية خالصة مكتملة بذاتها.
إذ لا ينبغي أن يجري الخلط بين الخاصية السردية للموسيقى الكلاسيكية، والأوركسترا كأداة تُصاحب سردية الصورة، سواء في فيلمٍ للرسوم المتحركة، أو في شريطٍ سينمائي أو وثائقي، أو دراما تلفزيونية، أو حتى حديث، وألعاب الفيديو. فالموسيقى غير المُحمّلة بالكلمات كالأغنية أو المسرح الغنائي، فيها سردية مُدمجة، مجازية ومفتوحة على التأويل المجسّد أو المجرّد، وإن في رحاب الخيال الخاص بكينونة كل مُستمع مفرد.
سردٌ يقوم بالشكل، أو القالب، ويسير بتعاقُب الأمزجة والمناخات الذي تُمليه الأجواء الصوتية مُتقلّبةُ الانسجامات والإيقاعات. أما العنصر الأوركسترالي حين يدخل على قصةٍ لفيلم كي يُسخّن حالاً من الحب أو الحرب، أو حتى مطاردة هزلية بين الهرّ والفأر، فهو ضمن هذا الإطار محضُ رافد يصب في سردية الموضوع. تذوُّقه فنياً أو اختباره حسيّاً مُرتبطٌ به، مُقتصر عليه، مُختصرٌ فيه ومُختزلٌ إليه.
ثمة تجربة فريدة عَبَرت تلك المسألة بشكل خلّاق، وإن بطريق معاكسة. ففي عام 1940، أنتجت شركة والت ديزني الفنية فيلماً للرسوم المُتحرّكة بعنوان فانتازيا Fantasia. أعد القصة وأخرجها كل من جو غرانت وديك هويمر. رسَم الفيلم بالكرتون ثماني لوحات راقصة تمثيلية لتكِّون مادة تُصاحب أعمالاً خالدة من الأدب الموسيقي العالمي، جُهّزت ووُزعت من قبل المؤلف وقائد الأوركسترا ليوبولد ستوكوفسكي Leopold Stokowsky 1882-1977 وسجّلتها أوركسترا فيلادلفيا.
جعل الفيلم من الكرتون أداةً تُجسّد تأويلاً فنيّاً مُحتملاً للمقطوعة، ومسرحاً غرائبياً تُمثَّل سرديتها على رُقعته. لتصير الصورة بذلك رافداً للموسيقى وإسقاطاً لها. مع ذلك، وعلى الرغم من نيل الفيلم رضى وقبول النقاد السينمائيين وجلّ جمهور المشاهدين، إلا أنه تلقى أراءً سالبة من داخل الوسط الموسيقي عينه. فعلاوة على استياء إيغور سترافينسكي Igor Stravinsky 1882-1971 (المؤلف الوحيد المُعاصر الذي شارك فيه بواحد من مؤلفاته، ألا وهو طقوس الربيع Rite of Spring)، فإن النقد قد جاء من باب استلاب الفيلم لنزاهة المادة الموسيقية، باحتجازها رهينةً ضمن كرتون سطحي المشهد، أحادي الرواية.
المآخذ والمحاذير جراء سبر عوالم الموسيقى الكلاسيكية واكتشافها، أو كشف النقاب عنها، عبر ربطها سواء بالفيلم والمسرحية، أو اللعبة التي استُعملت فيها بغية تشكيل معالمها السمعية، تكمن في إبقاء أثرها مُقترناً بالشكل الذي استخدمت فيه، والموضوع الذي استُحضِرت إليه. في ثقافات لم تنشأ الموسيقى الكلاسيكية فيها وتتطور، يصير هذا الاقتران هو المرجعية، لتتماهى الموسيقى بالكرتون وبالطفولة.
لئن ذكر عازف البيانو الصيني اللامع لانغ لانغ Lang Lang من باب الدعابة أن أول مرّة سمع فيها "الرابسودي الهنغاري"، وهي مقطوعة بيانو شهيرة للمؤلف فرانس ليست، كانت بأنامل الهرّ توم، إلا أن مسلسل توم وجيري لا يمكن له أن يكون السياق الذي كوّن لانغ لانغ من خلاله تجربته الموسيقية الشخصية وطوّر من فهمه للعمل الموسيقي ورفع من مستوى إتقانه.
بين النخبوية الثقافية والشعبوية الثقافية إزاء عرض الموسيقى الكلاسيكية على العموم جدلٌ قديم مُحتدم، لا حسم نهائيّاً فيه لجهة نجاعة نهج دون غيره. سفسطةٌ فرضتها لامعياريّة الفن، وحرّكتها متغيرات الاقتصاد والمجتمع، ووظّفتها مُقتضيات السياسة في ضوء إعداد الخطط وإصدار القرارات المتعلقة بإدارة القطاع الثقافي الحكومي والخاص. ففيما رأى المؤلف البولوني الراحل كرزيستوف بنيدريكي 1933 - 2020 Krzysztof Penderecki أنه "مثل أن لا ضرورة لأن يُقبِل الكلّ على قراءة الفلسفة، فإنه من غير الضروري أن يستمع الكلّ إلى الموسيقى الكلاسيكية".
بالمقابل، وعملاً برأي أفلاطون القائل بأن "لا مُجتمع ديمقراطيّاً راسخةٌ أركانه ما لم يصبح جميع المواطنين من الفلاسفة"، تبقى الموسيقى الكلاسيكية، بكمون الجوهر وكمال الأثر، حاجة مُلحّة. إذ إنها، إن لم تكن لغة كل العالم أو شارة "توم وجيري"، فإنها من دون شك، من أرقى الفنون وأقدرها عبوراً للثقافات، وأشدها اختراقاً للوعي الإنساني.