النظام السوري وحلفاؤه والحملة الأميركية على الإرهاب
وبخلاف تصريحاتٍ سابقة اشترطت التنسيق، وعدّت أيّ عمل عسكري من دون موافقته "عدوانًا" على السيادة السوريّة يتطلّب الردّ، رحّب رأس النظام السوريّ بالقصف الأميركي، ورأى أنّه يقف إلى جانب كلّ "جهد دولي لمكافحة الإرهاب"، وأصدرت الخارجية السوريّة بياناً، زعمت فيه أنّ وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أبلغ نظيره السوري، وليد المعلم، بموضوع الغارات عن طريق وزير الخارجية العراقي، إبراهيم الجعفري.
وقد سارع الأميركيون إلى نفي صفة التنسيق التي أراد النظام السوري إلصاقها بعلاقته مع أميركا في هذا السياق، وأكّدوا أنّ الأمر جاء على شكل تحذير نقلته السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، سامنثا باور، إلى سفير النظام السوري، بشار الجعفري، بعدم التعرّض للطائرات الأميركية التي ستقصف مقارّ تنظيم الدولة الإسلامية على الأراضي السوريّة.
أمّا زعيم حزب الله، حسن نصر الله، فألقى خطاباً تلفزيونيًاً تهرّب فيه من اتّخاذ موقف صريح من الغارات الأميركية على الأراضي السوريّة، مستعيضاً عن ذلك بالحديث عن رفض حزبه "أن يكون لبنان جزءاً من التحالف الذي تقوده أميركا؛ لأنّ أميركا أمّ الإرهاب"، ولأنّ "لبنان يستطيع الدفاع عن نفسه، ولا يحتاج إلى التحالف".
أمّا الرئيس الإيراني، حسن روحاني، فقد عدّ الغارات الأميركية غير شرعية؛ لأنّها "جاءت من دون موافقة الحكومة السوريّة، أو قرار من مجلس الأمن"؛ بمعنى أنّها كانت لتصبح شرعية، لو أنّ إدارة بارك أوباما قبلت عرض إيران والنظام السوري التنسيق معها بوصفهما جزءاً من التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن. ويعني كلام روحاني، أيضاً، أنّ بشّار الأسد دعم الغارات على بلاده، من دون تنسيقٍ أو تشاور، ومن دون أن تطلب منه الولايات المتحدة ذلك، وهو الذي لديه خبرة طويلة في تجنب إغضاب أميركا، ومحاولة نيل رضاها. فما هي المقاربات الحقيقية للنظام السوري وحلفائه؟
النظام السوري
منذ بدأت المقاربة الأميركية تتغيّر نحو تجديد انخراطها في المنطقة، بعد أن تمكّن تنظيم الدولة الإسلامية من الاستيلاء على الموصل، وإلحاق هزيمةٍ كبرى بالجيش العراقي المدرّب والمجهّز أميركياً، بدأ النظام السوري يطرح نفسه جزءاً من حرب إدارة أوباما على التنظيم، بعد أن ظلّ ممتنعاً طوال عام 2013 عن استهداف مقارّه في الرقّة وحلب، بل وصل الأمر إلى حد تدخّل النظام إلى جانب التنظيم ضدّ قوى المعارضة السوريّة المسلّحة في مواقع عدّة كمدينة الباب، ومنبج، والرقّة، إبّان المواجهات التي جرت مطلع عام 2014 بين التنظيم وفصائل المعارضة.
ومنذ أن باشرت واشنطن الترتيب لإنشاء تحالفٍ دولي ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية، شرع النظام
في محاولة حجزٍ مقعد له، في استهداف مقارّ التنظيم في الرقّة ودير الزور، بصورة شبه يومية، وعرض، عبر مسؤوليه، أن يكون "شريكًا" في التحالف ضدّ الإرهاب.
لكن إدارة أوباما رفضت ذلك، على أساس أنّ مواجهة تنظيم داعش تتطلّب استراتيجية طويلة المدى تؤدي، من جهة، إلى معالجة "مظالم السنّة من العراقيين والسوريين"، على حدّ وصف الرئيس أوباما، ودمجهم في عملية سياسية توافقية، وتنشئ، من جهةٍ أخرى، تحالفاً دولياً عماده دول عربية "سنّية"، حتّى لا تبدو واشنطن كأنّها متحالفة مع القوى السياسية الشيعية في المنطقة في مواجهة مع تنظيم يقدّم نفسه ممثلًا لمظلومية السنّة.
وما زاد الأمور سوءًا بالنسبة إلى النظام السوري موافقة الكونغرس الأميركي على طلب إدارة أوباما تقديم 500 مليون دولار لتسليح "المعارضة المعتدلة"، وتدريبها في المملكة العربية السعودية. ويدرك النظام، أيضاً، أنّ انخراط واشنطن في عملٍ عسكري ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية على الأراضي السوريّة يعني أنّ واشنطن غادرت حالة التردّد للتدخّل عسكريًّا في الشأن السوري، وذلك، بحد ذاته، قد يفتح الباب أمام اتّساع هذا التدخّل، ليشمل النظام وقوّاته.
لذلك، على الرغم من أنّ التدخل الأميركي يوجّه ضربةً لخصمَي النظام الأقوى من بين الفصائل المسلّحة، اليوم، والمتمثّليْن بجبهة النصرة وتنظيم "داعش"، فهو يحمل مخاطرَ شديدة؛ منها رفض عدّ النظام السوري، كما النظام العراقي، شريكاً في الحرب على "داعش"، ورفض التنسيق معه، أو الحصول على موافقته، بوصفه حكومة شرعية لسورية، وأخيراً احتمال توجيه ضربات لقوّاته، في حال حاولت اعتراض الطائرات الأميركية، بدعوى الدفاع عن السيادة، فضلاً عن احتمال توجيه واشنطن ضربات لقوّات النظام، إذا حاولت الاستفادة من إضعاف تنظيمَي النصرة و"داعش"، وبسط نفوذها على الأراضي التي يسيطران عليها، أو إذا حاولت توجيه ضربات إلى المعارضة المسلّحة السوريّة التي تصنّفها واشنطن معتدلة.
ولا شكّ في أنّ النظام السوري يأخذ على محمل الجدّ تصريحات وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، الذي هدّد بجعل النظام يدفع ثمناً لاستخدامه، أخيراً، غاز الكلور ضدّ مناطق تسيطر عليها المعارضة.
ويأخذ بجدّيةٍ أكبر، أيضاً، تصريحات أوباما بعد ذلك بيوم (15 سبتمبر/ أيلول2014)، عندما هدّد بتدمير الدفاعات الجوّية السوريّة، إذا "تجرّأ الأسد على التصدّي للطائرات الأميركية".
لذلك، وبما أنّه لا يملك أن يوقفها، ولا يملك حتى أن يقول إنّه يحتفظ بحقّ الردّ عليها في المكان والزمان الملائمَين، كما جرت العادة بعد كلّ عدوان إسرائيلي على سورية، وفي الوقت نفسه، يخشى من استهدافها له، وجد النظام السوري المخرج بأن يرحّب بها، بوصفها تستهدف الإرهاب وأدواته.
كان انضمام الأسد إلى التحالف الأميركي من طرفٍ واحد، فهو طرف لا يقبل به أحد. إنه يفرض نفسه "حليفاً طبيعياً" على أميركا (على حد تعبير فيصل المقداد، نائب وزير الخارجية السوري)، وعلى دول الخليج، لمحاربة تنظيم "داعش" الذي سبق أن ادعى أنه صناعة أميركية خليجية.
إيران
لا شكّ في أنّ سيطرة "داعش" على مساحاتٍ واسعة في العراق، وما ترتّب عليها من آثارٍ، سدّدت ضربة للطموحات الإيرانية في عموم المنطقة؛ فمن جهةٍ، أطاح التنظيم حكومة نوري المالكي، وألحق هزيمةً بالجيش العراقي المبنيّ على أسسٍ طائفية، وأظهر عجْز القوى الأمنية والميليشيات الطائفية المحسوبة على إيران، وترهّلها. فضلًا عن ذلك، وجّه داعش ضربةً قوية للمشروع الإيراني، القائم على إنشاء قوس نفوذ ممتدّ من طهران إلى بيروت، عبر بغداد ودمشق.
لذلك، كان من الطبيعي أن تعرض إيران التعاون مع واشنطن في الحرب عليه. وهو ما كرّره الرئيس الإيراني، حسن روحاني، أكثر من مرة، آخرها في اجتماع منظمة شنغهاي للتعاون في العاصمة الطاجيكية، دوشانبيه، في وقتٍ سابق من سبتمبر/أيلول، عندما أكّد أنّ تنظيم الدولة هذا لا يمكن القضاء عليه بضرباتٍ جوّية، بل يحتاج إلى تعاون وتنسيق إقليمي ودولي.
لكن، يوحي تعامل الأميركيين مع العرض الإيراني، كما مع نظام الأسد، بأنّ إيران جزء من المشكلة، وأنّ سياساتها الطائفية وسياسات حلفائها في سورية والعراق وغيرهما أسهمت في صعود التنظيم وغيره من التنظيمات الراديكالية، وأنّه لا يمكن محاربة "داعش" بتحالفٍ مرئيّ مع إيران؛لأنّ ذلك سيحوّل أميركا إلى طرفٍ في حربٍ طائفية بين المسلمين.
لذلك، قرّرت واشنطن، وبضغطٍ من حلفائها العرب، أيضًا، تجاهل العرض الإيراني، وعدم قبول طهران في التحالف الدولي.
أثار رفض واشنطن التنسيق مع إيران لدى الأخيرة المخاوف نفسها التي أثارها لدى نظام الأسد؛ أي نشوء احتمال فرض ترتيباتٍ سياسيةٍ جديدةٍ، سواء في سورية أو في العراق، لا تتلاءم مع مصالحها.
من هذا الباب، يعدّ التدخّل الأميركي نعمةً ونقمة، في الوقت نفسه، بالنسبة إليها وإلى حليفها في دمشق؛ فالتدخّل الأميركي يحوّل الصراع إلى صراعٍ ضدّ الإرهاب أساساً، وليس ضدّ الاستبداد. ولكن حاجته إلى بعض الصدقية السياسية، لتجنيد الشعوب العربية ضدّ الإرهاب، قد تدفعه إلى فرض حلولٍ سياسيةٍ، تتجاوز الهيمنة الإيرانية.
حزب الله
كما حال حلفائه، يتّسم موقف حزب الله من الضربات الجوّية على سورية، ومن تشكيل التحالف الدولي، بالتناقض؛ فمن جهةٍ، يعدّ الحزب أبرز المستفيدين من ضرب تنظيمات جهاديّة، تشابهه من حيث البنية التنظيمية وأساليب القتال، لكنّها تتناقض معه في الموقف والمذهب والأهداف، ويخوض معها معاركَ ومواجهاتٍ يومية، أضحت، في الأشهر الأخيرة، عبئًا كبيرًا عليه، واستنزافًا
دائمًا له، سواء في مدن القلمون السوريّة أم جرود عرسال اللبنانية. يمكن القول إنّ حزب الله يقف في خندقٍ واحد مع التحالف الدولي، إذا ما نظرنا إلى التقاطع في الأهداف والشعارات المرفوعة. لكنّ الحزب، وبسبب خطابه السياسي وشعارات "المقاومة والممانعة" والعداء لأميركا، لا يستطيع اتّخاذ موقفٍ مرحِّب بالقصف الأميركيّ، كما فعل حليفه السوريّ.
لذلك، تَمثّل المخرج أمام الحزب في تلافي اتّخاذ موقفٍ من الغارات على سورية، لأنّها تخدمه، وإن كانت تثير لديه مخاوفَ شبيهة بالتي تثيرها لدى النظام السوريّ، واختار، بدلًا من ذلك، أن يذهب باتّجاه موقفٍ لا يكلّفه سياسيًّا الكثير، ولا يعني شيئاً أصلاً، عندما رفض انضمام لبنان إلى التحالف الدولي.
خلاصة القول إنّ ثمة تحالفاً للراغبين، وتحالفاً آخرَ للمستفيدين الذين يخشون أن يصبحوا متضررين لاحقاً. ومن هنا التناقض بين الفعل والقول الذي يساهم في إحداث انطباع الفوضى.
لكن الغائب هو التمثيل السياسي والعسكري المنظّم للضحايا، أي الشعب السوري المتضرر من الإرهاب والاستبداد، والشعب العراقي المتضرر من الإقصاء الطائفي والهيمنة الإيرانية والإرهاب. حين أسقطت أميركا سابقًا نظام صدام حسين، عارضت إيران الحرب لفظاً، ولم تكن بحاجةٍ إلى أكثر من ذلك؛ فأميركا، في الواقع، خاضت حربها من أجل إيران. وهذا ما يمكن أن يحصل مرةً أخرى، إذا لم يوجد من يملأ الفراغ. الفرق أنه يوجد وعيٌ أكبر بهذه الحقيقة، ونتائج ما جرى سابقاً في العراق ماثلة أمام الجميع. ولكن الوعي وحده لا يكفي.