لا يزال الشيوخ النوبيّون الذين عاصروا ترحيلهم قسراً، بعيداً، عن موطنهم الأصلي، قبيل إغراقه بمياه بحيرة السدّ العالي، يحملون معهم همومهم وتاريخهم وتراثهم الذي يمتدّ إلى أعماق بعيدة في التاريخ، تصل إلى "الفراعنة السود"، الذين كان من أبرز ملوكهم توت عنخ آمون وطهراق.
ولكنّ الخطر الذي يهدّد هذا التراث تفاقم بشكل مخيف، في النصف الثاني من القرن الماضي، وقد توجّه نفرٌ من الباحثين الأوروبيين والمصريين إلى النوبة باذلين جهوداً كبيرة لتزويد المكتبات العالمية بدراسات متنوّعة عن هذه الحضارة القديمة، غير أنّ عدم معرفتهم اللغة النوبية واعتمادهم على المترجمين المحليين، كان سبباً في تواضع ما قدّموه عن ثقافة النوبة، وهو ما دفع بعض الباحثين النوبيين إلى أن يحملوا هذه الأمانة لتعويض ذلك النقص، وقد ركّزوا أبحاثهم على إنقاذ اللغة النوبية أوّلاً، ثم الفنون والعادات الاجتماعية.
لغة متكاملة
يقدّر عدد المتكلمين باللغة النوبية بـ11 مليون نسمة، وهي لغة متكاملة تتفرّع عنها لهجات متعدّدة. جَرَتْ محاولات حديثة للكتابة النوبية باستخدام الحروف العربية تارة، والحروف اللاتينية تارة أخرى بعد مدّة توقف عن كتابتها بلغت ألف سنة، حتى نجحت محاولة حديثة في إعادة تداول الحروف القديمة، التي كتبت بها اللغة منذ قرون بعيدة، وتشهد بذلك المخطوطات النوبية المنتشرة في مكتبات أوروبا. ويكشف الباحثون وفقاً للآثار المكتشفة عن أن النطق باللغة النوبية المتداولة الآن، له صلة وطيدة باللغة التي كان يتحدّثها قدماء النوبيين في بناء معبد أبي سنبل.
فنون النوبة
يزعم النوبيون أن "زرياب" الذي أضاف وتراً خامساً للعود كان نوبيّاً. وهو ادعاء يكشف أهمية الغناء والموسيقى في حياة هؤلاء الناس. وعلى الرغم من الازدواجية اللغوية التي يعاني منها أبناء النوبة حاليّاً، بسبب انخراطهم في مجتمع وادي النيل ولغته العربية ولهجاته العامية، بجانب تحدثهم في ما بينهم بلغتهم الأم؛ فإن "الغناء النوبي" استطاع أن يحمل رسالة التعريف بالهوية النوبية عبر معانيه الخاصة وألحانه المميزة.
في القرن العشرين برز عدد من الموسيقيين والمطربين النوبيين الذين انفتحوا على المجتمع العربي والعالمي، فقدّموا فنّاً مميّزاً مثل علي كوبان (1929-2001) الذي أوصل الغناء النوبي إلى العالمية عبر حفلاته الأوروبية، و(أحمد منيب) 1926-1991 الذي قدّم في إذاعة (وادي النيل) في الستينيات برنامجه "من وحي الجنوب" ليستمع المصريون إلى الغناء والموسيقى النوبية بانتظام. وقد ورثت أجيال من الفنانين لواء هذه المهمة إلى اليوم، بعثاً وتطويراً.
من حيث العمارة، يعاني أهل النوبة منذ أكثر من خمسين سنة من مشكلة البيت النوبي الحديث الذي بنته الحكومة للأهالي المهجّرين، بعد أن غمرت مياه السدّ العالي بيوتهم وقراهم من دون مراعاة طبيعتهم وتقاليدهم.
فالبيت النوبي التقليدي يبنى من الطوب اللِّبن (الطين)، ويكون فوق كلّ بيت قبّة، وظيفتها توزيع حرارة الشمس، حيث لا تكون مسلطة بشكل عمودي على سطح أفقي، فتنقل كل الحرارة إلى داخل البيت. وأمام كل بيت توجد "عتبة" ترتفع عن الشارع بمقدار 30 سم، ووظيفتها حماية البيوت من الحشرات الزاحفة والعقارب والأفاعي، والشوارع النوبية الواسعة تحفظ الكثير من الخصوصية للأهالي. إضافة إلى "المصطبة" التي تستخدم مجلساً للضيوف أحياناً وتناول الشاي والمخبوزات الخفيفة في أوقات "العصاري" وبعد صلاة العشاء في الصيف!
لا يحتاج البيت النوبي إلى شبابيك للتهوية، ولا يحتاج إلى مراوح ومكيّفات، فهو مكوّن من دور واحد جدرانه عالية، وسطح البيت على شكل قبّة مجوّفة من داخل البيت، وهناك قبّة لكل حجرة تمتد بامتداد الحجرة، وتلك الفجوة من الداخل بها أربع فتحات، اثنتان في أول الحجرة واثنتان في آخرها لتجديد الهواء. والمساحة ما بين الحجرات يتم تغطيتها بـ"تعريشة" من سعف النخيل لكي تحجب أشعة الشمس عن فناء البيت.
ولا تختلف العمارة الدينية عن النمط العام، فالشكل الذي كانت تُبنى عليه الكنائس هو الشكل الذي تُبنى عليه المساجد، والكنائس كانت لها قبتان على الأكثر، واستبدلت المساجد المآذن غير المرتفعة بالقباب، وسلالم الصعود إلى أعلى المئذنة تلتف حولها من الخارج وليس من داخل المسجد.
الأزياء والمناسبات
تشبه الأزياء الرجالية في النوبة أزياء قدماء المصريين، يتألف الجلباب الرجالي من الصدرة أو القميص والرداء والشال. والرأس مغطى بالعمة البيضاء الملفوفة بطريقة مميزة. بينما يفضل الشباب ارتداء الطاقية المزركشة بدلاً من العمامة.
وللمرأة النوبية زيّ يسمى "الجرّار"، ويصنع يدويّاً، وسمي بذلك لطوله الزائد من الخلف، فيجرّ على الأرض. ومنه ثلاثة أنماط، فالعازبات، يتكون زيهن من فستان سابغ بأكمام طويلة أو قصيرة مع خمار أو طرحة ملوّنة. أما المتزوجات فإن جرّارهن لونه أسود منقوش أو مخطط مع خمار أسود. فيما يختلف زيّ السيدات العجائز اللائي يلبسن نوعاً آخر من الثياب الطويلة وذات أكمامٍ واسعة جدّاً يشبه العباءة، لكنها ليست مفتوحة من الأمام.
وفي الأعراس النوبية المميزة، ومنذ ليلة "الحنّاء" وحتى سبعة أيام، نجد العريس يرتدي جلباباً أبيض من القطن وشالاً من الحرير وعمامة بيضاء على الرأس، ويلبس خفّاً أحمر في قدميه. بينما تتزين العروس بثلاثة أنواع من الأغطية، أحدها شفاف للوجه والثاني ملون فوق الرأس، والأخير من القماش الأبيض الثقيل يغطى به الرأس بالكامل.
وأخيراً فإنه من العسير جداً إدراك جميع العناصر التي تمثل التراث النوبي، فالحضارة النوبية خلفت الكثير من المآثر بدءاً من أهرامات النوبة، والآثار الأدبية الشفهية والمدونة، مروراً بالعادات والتقاليد.. ولكن ما لا يدرك كله، لا يترك جلّه!
ولكنّ الخطر الذي يهدّد هذا التراث تفاقم بشكل مخيف، في النصف الثاني من القرن الماضي، وقد توجّه نفرٌ من الباحثين الأوروبيين والمصريين إلى النوبة باذلين جهوداً كبيرة لتزويد المكتبات العالمية بدراسات متنوّعة عن هذه الحضارة القديمة، غير أنّ عدم معرفتهم اللغة النوبية واعتمادهم على المترجمين المحليين، كان سبباً في تواضع ما قدّموه عن ثقافة النوبة، وهو ما دفع بعض الباحثين النوبيين إلى أن يحملوا هذه الأمانة لتعويض ذلك النقص، وقد ركّزوا أبحاثهم على إنقاذ اللغة النوبية أوّلاً، ثم الفنون والعادات الاجتماعية.
لغة متكاملة
يقدّر عدد المتكلمين باللغة النوبية بـ11 مليون نسمة، وهي لغة متكاملة تتفرّع عنها لهجات متعدّدة. جَرَتْ محاولات حديثة للكتابة النوبية باستخدام الحروف العربية تارة، والحروف اللاتينية تارة أخرى بعد مدّة توقف عن كتابتها بلغت ألف سنة، حتى نجحت محاولة حديثة في إعادة تداول الحروف القديمة، التي كتبت بها اللغة منذ قرون بعيدة، وتشهد بذلك المخطوطات النوبية المنتشرة في مكتبات أوروبا. ويكشف الباحثون وفقاً للآثار المكتشفة عن أن النطق باللغة النوبية المتداولة الآن، له صلة وطيدة باللغة التي كان يتحدّثها قدماء النوبيين في بناء معبد أبي سنبل.
فنون النوبة
يزعم النوبيون أن "زرياب" الذي أضاف وتراً خامساً للعود كان نوبيّاً. وهو ادعاء يكشف أهمية الغناء والموسيقى في حياة هؤلاء الناس. وعلى الرغم من الازدواجية اللغوية التي يعاني منها أبناء النوبة حاليّاً، بسبب انخراطهم في مجتمع وادي النيل ولغته العربية ولهجاته العامية، بجانب تحدثهم في ما بينهم بلغتهم الأم؛ فإن "الغناء النوبي" استطاع أن يحمل رسالة التعريف بالهوية النوبية عبر معانيه الخاصة وألحانه المميزة.
في القرن العشرين برز عدد من الموسيقيين والمطربين النوبيين الذين انفتحوا على المجتمع العربي والعالمي، فقدّموا فنّاً مميّزاً مثل علي كوبان (1929-2001) الذي أوصل الغناء النوبي إلى العالمية عبر حفلاته الأوروبية، و(أحمد منيب) 1926-1991 الذي قدّم في إذاعة (وادي النيل) في الستينيات برنامجه "من وحي الجنوب" ليستمع المصريون إلى الغناء والموسيقى النوبية بانتظام. وقد ورثت أجيال من الفنانين لواء هذه المهمة إلى اليوم، بعثاً وتطويراً.
من حيث العمارة، يعاني أهل النوبة منذ أكثر من خمسين سنة من مشكلة البيت النوبي الحديث الذي بنته الحكومة للأهالي المهجّرين، بعد أن غمرت مياه السدّ العالي بيوتهم وقراهم من دون مراعاة طبيعتهم وتقاليدهم.
فالبيت النوبي التقليدي يبنى من الطوب اللِّبن (الطين)، ويكون فوق كلّ بيت قبّة، وظيفتها توزيع حرارة الشمس، حيث لا تكون مسلطة بشكل عمودي على سطح أفقي، فتنقل كل الحرارة إلى داخل البيت. وأمام كل بيت توجد "عتبة" ترتفع عن الشارع بمقدار 30 سم، ووظيفتها حماية البيوت من الحشرات الزاحفة والعقارب والأفاعي، والشوارع النوبية الواسعة تحفظ الكثير من الخصوصية للأهالي. إضافة إلى "المصطبة" التي تستخدم مجلساً للضيوف أحياناً وتناول الشاي والمخبوزات الخفيفة في أوقات "العصاري" وبعد صلاة العشاء في الصيف!
لا يحتاج البيت النوبي إلى شبابيك للتهوية، ولا يحتاج إلى مراوح ومكيّفات، فهو مكوّن من دور واحد جدرانه عالية، وسطح البيت على شكل قبّة مجوّفة من داخل البيت، وهناك قبّة لكل حجرة تمتد بامتداد الحجرة، وتلك الفجوة من الداخل بها أربع فتحات، اثنتان في أول الحجرة واثنتان في آخرها لتجديد الهواء. والمساحة ما بين الحجرات يتم تغطيتها بـ"تعريشة" من سعف النخيل لكي تحجب أشعة الشمس عن فناء البيت.
ولا تختلف العمارة الدينية عن النمط العام، فالشكل الذي كانت تُبنى عليه الكنائس هو الشكل الذي تُبنى عليه المساجد، والكنائس كانت لها قبتان على الأكثر، واستبدلت المساجد المآذن غير المرتفعة بالقباب، وسلالم الصعود إلى أعلى المئذنة تلتف حولها من الخارج وليس من داخل المسجد.
الأزياء والمناسبات
تشبه الأزياء الرجالية في النوبة أزياء قدماء المصريين، يتألف الجلباب الرجالي من الصدرة أو القميص والرداء والشال. والرأس مغطى بالعمة البيضاء الملفوفة بطريقة مميزة. بينما يفضل الشباب ارتداء الطاقية المزركشة بدلاً من العمامة.
وللمرأة النوبية زيّ يسمى "الجرّار"، ويصنع يدويّاً، وسمي بذلك لطوله الزائد من الخلف، فيجرّ على الأرض. ومنه ثلاثة أنماط، فالعازبات، يتكون زيهن من فستان سابغ بأكمام طويلة أو قصيرة مع خمار أو طرحة ملوّنة. أما المتزوجات فإن جرّارهن لونه أسود منقوش أو مخطط مع خمار أسود. فيما يختلف زيّ السيدات العجائز اللائي يلبسن نوعاً آخر من الثياب الطويلة وذات أكمامٍ واسعة جدّاً يشبه العباءة، لكنها ليست مفتوحة من الأمام.
وفي الأعراس النوبية المميزة، ومنذ ليلة "الحنّاء" وحتى سبعة أيام، نجد العريس يرتدي جلباباً أبيض من القطن وشالاً من الحرير وعمامة بيضاء على الرأس، ويلبس خفّاً أحمر في قدميه. بينما تتزين العروس بثلاثة أنواع من الأغطية، أحدها شفاف للوجه والثاني ملون فوق الرأس، والأخير من القماش الأبيض الثقيل يغطى به الرأس بالكامل.
وأخيراً فإنه من العسير جداً إدراك جميع العناصر التي تمثل التراث النوبي، فالحضارة النوبية خلفت الكثير من المآثر بدءاً من أهرامات النوبة، والآثار الأدبية الشفهية والمدونة، مروراً بالعادات والتقاليد.. ولكن ما لا يدرك كله، لا يترك جلّه!