دعك من تعقيدات تعريف كلمة "النيوليبرالية" أو الليبرالية الجديدة، والبحث عن تعريف دقيق لها، ومحاولة معرفة الفارق بينها وبين الليبرالية التقليدية والرأسمالية وغيرها من النظم السياسية والاقتصادية الأخرى المتعارف عليها في العالم وعبر العصور المختلفة.
هذا لا يهم الآن رجل الشارع المحتقن والغاضب الآن، ولا يشغل بال موظف الحكومة الذي لا يكفي راتبه تغطية حتى مصروفات الأيام الأولى من الشهر، ويلجأ لأساليب أخرى لتغطية تلك المصروفات منها السلف والجمعيات وغيرها.
ولا تعني هذه الفروقات شيئا للمواطن الفقير وعامل اليومية المنكفئ على وجهه طوال اليوم بحثا عن لقمة عيش وقطعة خبز، من التي قل وزنها بنسبة 18% وزاد سعرها، يسد بها جوع أسرته ويملأ جزءا من الفراغ الكبير في بطون ذويه.
فإذا أردت أن تتعرف عن قرب إلى أبرز ملامح النيوليبرالية المتوحشة وأساليب تطبيقها والفئات المستهدفة بها، فستجدها ساكنة الآن في كل شوارع وحارات وميادين مصر، ومعششة في قرى الصعيد "الجواني" ومدن الوجه البحري والمحافظات النائية الواقعة على الأطراف. لا تستثني بشراً أو حتى قطعة أرض ولا حجراً، ولا تخاصم أسرة معدمة لا تجد حتى فتات الطعام وفضلات الطعام لتأكله.
نيوليبرالية متوحشة تنهش أجساد وأفئدة الجميع، العاطلين عن العمل والفقراء والمعدمين والأرامل وموظفي الجهاز الإداري بالدولة، حتى موظفي القطاع الخاص والشركات باتت لا ترحمهم، فهي تدب فيهم أظافرها المسمومة كالذئاب، لا ترحم جسما ضعيفا ولا مريضا ولا أرملة ولا مطلقة ولا طفلا يتيما.
ونظرة سريعة لما يحدث في مصر هذه الأيام، نجد أنها تعيش مرحلة النيوليبرالية المتوحشة بكل بشاعتها وقسوتها، زيادات متواصلة وقياسية في الأسعار، بما فيها السلع الغذائية والتموينية الضرورية. ارتفاعات مستمرة في تذاكر المواصلات العامة، بما فيها الشعبية كالقطارات والمترو وأتوبيسات النقل العام.
قفزات في أسعار الوقود رغم تخاوي أسعار البترول في الأسواق العالمية. زيادات في فواتير الخدمات العامة مثل المياه والكهرباء والغاز والاتصالات والتليفون المحمول ورسوم النظافة، زيادات سنوية في الضرائب والرسوم والجمارك. إتاوات حكومية لا تتوقف على الخدمات المقدمة للمواطن في المصالح والمؤسسات العامة كالمرور والشهر العقاري والأحوال المدنية وغيرها.
التوسع في سياسة بيع أراضي الدولة والتأخر في توصيل مرافق لها، وبالتالي حبس سيولة المواطن وعدم الاستفادة منها. زيادة دراماتيكية في الاقتراض الخارجي والمحلي، خضوع لشروط وابتزاز المؤسسات المالية الدولية وفي المقدمة صندوق النقد الدولي.
تعويم للعملة المحلية والسماح بتهاوي سعرها مقابل الدولار، وبالتالي حدوث موجات تضخمية يترتب على أثرها تهاوي الطبقة الوسطى، وانضمام ملايين المستورين والموظفين إلى دائرة الفقر والعوز والضياع.
توحش لا يرحم الطبقة الوسطى قبل الفقيرة والمعدمة، ومن نتائجه المباشرة حدوث قفزات في معدلات الفقر والبطالة والأمراض الاجتماعية والطلاق، وتآكل في الثروات الوطنية وتراجع لمعدلات الادخار.
وفي المقابل يراكم كبار رجال الأعمال والمستثمرين وأصحاب الياقات البيضاء والفئات المرضي عنهم سياسيا ثرواتهم على حساب ملايين العمال والفقراء والضرائب ومستحقات الدولة، ويواصلون تهريب أموالهم إلى الخارج وعدم إعادة ضخها في شرايين الاقتصاد الوطني.
في عصر النيوليبرالية المتوحشة في مصر، تتحول الحكومة إلى سمسار وتاجر أراضي وعقارات، همه الأول الربح وجمع مزيد من الأموال من جيب المواطن الفقير، ولذا تركز الحكومة على المشروعات والخدمات سريعة العائد مثل العقارات وبيع الأراضي والطرق التي يتم فرض اتاوات مستمرة على السير بها، حكومة لا تعطي أولوية للخدمات المقدمة للمواطن خاصة المتعلقة بالصحة والتعليم والمياه والصرف الصحي وتوفير السلع في الأسواق ومحاربة الاحتكارات وجشع التجار، وتعطي أولوية لبناء القصور والاستراحات والمشروعات " الكبرى" التي تصنع مجدا رغم أنها لا تمثل قيمة للاقتصاد والمجتمع.
مصر أعطت طعما جديدا للنيوليبرالية المتوحشة قلما تجده في العالم، فهي تلغي تدريجيا دور الدولة في تقديم الدعم بكل صوره، خاصة للطبقات الفقيرة والمعدمة، وفِي نفس الوقت تفرض ضرائب باهظة على المواطن قد لا يقابلها تقديم خدمة من الأصل، وفي حال تقديم تلك الخدمة يتم تحميل المواطن تكاليفها كاملا... منتهى "الاستهبال".