طلب مني أن نُسرع. قال إن الرفاق بانتظاره. الحواجز الأمنية ورجال الشرطة يمنعون السيارات من الدخول عبر الشارع. مُشاة فقط، قال رجل الأمن.
ترجّلنا، مشينا باتجاه الحشود التي تهتف وتدقّ الطبول وتُغنّي الأهازيج الوطنية. الوقتُ منتصف الليل. رأيناهم من بعيد كما لو أنهم مجرّةٌ صغيرة سقطت على الأرض بسبب الهواتف الخلوية الكثيرة المضاءة في أيديهم. يهرول. أهرول معه. يسعُل، إنه مُدخّن شره. رأيت شعره الطويل، الواصل إلى كتفيه، يهتزّ فوق رقبته من الخلف، رأيتُه كما لو أنه محارب مقدام على وشك الالتحام بجيش من المقاتلين.
حينما اقتربنا من الحشود التي تملأ الشارع الممتدّ من الدوار الخامس حتى الرابع، بكى بادئ الأمر. أومأ إليَّ بعينَيه الدامعتين. قال: "مثلما ترى، أخبرتك عن هذا اليوم". قلتُ: "أجل، أخبرتَني عنه". أخذته في حضني وربتُّ على ظهره من الأعلى: "لا عليك!".
وقفنا في الخلف قليلاً. الميدان متروس عن بكرةِ أبيه بالشبّان والشابات، الآلاف جاؤوا في هذه الليلة. نظرتُ إليه. قال إنه يدرس الأمر. قلتُ: "جيّد، يجب أن تتريّث، الأمر لا يحتمل العشوائية، هل أجابك أحد؟". قال:" لا، إنهم منخرطون، وبالتأكيد، لا يسمعون رنّات الهاتف".
ربتُّ على ظهره من جديد، وابتسمت له. تحمّس، أخذ يصول هنا وهناك، يقف على رؤوس أصابعه، ينظر من فوق أكتاف الشبّان. لم أستطع مجاراته أو السيطرة عليه. كنت أحاول المكوث إلى جانبه، أستمر في إمساك يده، أخاف عليه، إنه هزيل، وكان يسعل بشدة، لكنه يتفلّت مني كشيء مصقولٍ زلق، غبتُ لثوانٍ لأجيب على الهاتف، لأقول للمتحدّث إنني لا أسمعه الآن بسبب الضّجة والصراخ من حولي وسأعاود الاتصال به، وعندما رجعت، أو استدرت إليه على وجه التحديد، لأنني لم أبتعد، وجدتني قد فقدته. كالصابونة، انزلق مني وضاع في زحمة المتظاهرين.
بدأتُ أبحث، أندس بين الجموع المتراصة، أتّخذ الوضعية الجانبية، أمدّ يدي أول الأمر ثم أوارب جسدي بين أكتاف وجذوع المحتشدين مثل جسمٍ غريب يدخل في نسيجٍ من الخلايا الطلائية، أغوص، ثم أخرج لألتقط بعض الأنفاس ثم أغوص من جديد، عندما أكون في الأسفل، أفتّش عن ساقيه الضئيلتين بذلك البنطال البُنّي الداكن، وحذائه، ذي الساق الطويلة، الذي اشتريناه سويةً من سوق الجمعة. وفي الأعلى، لحظة أخذ الأنفاس، أبحث إن كان هناك شخص ما، بأنفٍ كبيرٍ مدبّب كالإجاصة، وشعرٍ طويلٍ رمادي، مرسل على كتفيه.
سمعت صوته أخيراً، أنا أعرف تلك النبرة التي أصبحت تُغلّفها خرخرة عند الحديث. وجدتُه راكباً على كتفَي أحدهم. يُدلّي قدميه. وجهه محمرّ، يصرخ بصوت متحشرج: "بطلنا نحكي يعيش!"، ويلوّح بقبضته المشدودة. لكنّ أحداً لا يُردّد من خلفه.
اقتربتُ من ركبته اليُمنى، نقرت عليها بهدوء، طلبت منه أن ينزل، وأشرت بيدي أن يفعل ذلك. هزّ رأسه، وطلب من الشاب أن يُنزله. أنزله الأخير ونظر إليَّ مواسياً، كما لو أنه يقول: "قمتُ فقط بالواجب"، قلتُ: "لا عليك". وعندما ابتعدنا قليلاً، همس لي: "هؤلاء جُبناء". ثم راح يتلفّت من حوله، يرفع رأسه ويخفضه كالنعامة عندما تمشي. قلت: "هل تبحث عن شيء ما؟"، قال: "أجل، الرفاق، لا بد أنهم في المنتصف، أمّا هؤلاء الجُدد، جبناء، سقفهم مُنخفض".
حاولتُ مساعدته على شقّ الصفوف، أتقدّم أمامه، أفتح له الطريق، كنتُ مؤمناً بدوره الرائد في الهُتاف، حماسه منقطع النظير للتغيير، الصوت المتضخّم جدّاً، لكنّ ذلك كان فيما مضى على ما يبدو، في الحراك السابق، إبان الربيع، قبل عدّة سنوات.
بالكاد وصلنا إلى المنتصف. أخذ وقتاً وهو يتفرّس في الوجوه. قال: "المخبرون يملؤون المكان، لا بد أن الرفاق في الجوار إذن". أمسكتُ يده وضغطت عليها، قلتُ: "هذا مؤكّد، إنهم في الجوار". قال: "سيسمعون صوتي ويأتون إليّ في الحال". قلتُ: "أجل، لا بد أن يفعلوا، أنت حراكي قديم، تعرف الأساليب بشكلٍ جيد". انتظرنا قليلاً، لم يجد أحداً منهم. اقترب من أذني، رفع صوته، قال: "المكان شبه معتم، لا بد أن يسمعوا صوتي لكي يأتوا".
وافقته على ذلك، وشعرتُ بالحزن. وفجأةً رأيته يأخذ نفساً عميقاً، ثم يُطلق صرخة حاول، بلا طائلة، أن تكون مدوية: "الشعب يريد إسقاط النظام"، ولم يكن بعد هذه الصرخة أي شيء يُذكر، لأن أحداً من المتظاهرين لم يردّد من خلفه. انشغلوا بالترديد خلف هتّيف آخر ببعض الأهازيج المرتجلة للتو. شعر بالإحراج.
قلتُ مخفِّفاً وقع التجاهل عليه: "هؤلاء جبناء كما قلت، لا يعرفونك". هزّ رأسه، شعر بالإطراء، تحمّس، صرخ في أذني: "لنذهب إلى المقدّمة إذن، الرفاق هناك بالتأكيد". قلت: "حسناً، إلى المقدمة، لا بد أنهم هناك، ومن غيرهم سيكون في المقدمة، بالإضافة إلى رجال الدرك". قال: "أجل، هؤلاء، كما قلت لك، سقفهم منخفض، ثم إنهم لا يعرفونني".
قلت: "أجل بالتأكيد، التمسْ لهم العذر، لا يعرفون صولاتك القديمة، ثم إنك خرجت للتوّ من السجن".
* كاتب من الأردن