تطرح قضية الكتابة باللغة الفرنسية بالنسبة لعدد كبير من الكتاب العرب في فرنسا وبلجيكا، إشكالات عميقة تتعلق باللغة والهوية، وهي إشكالية طالما شغلت العديد من الكتاب المنحدرين من أصول مغاربية أو من مصر ولبنان، وعبر عنها أصدق تعبير الكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي.
فهو مثقف متعدد، كتب باللسان الفرنسي قضايا من صميم الثقافة العربية، وهنا أهمية عمله السجالي، في كتابه بالغ الأهمية النقد المزدوج، والذي وجه فيه نقداً لاذعاً إلى الثقافة العربية المتحجرة، وإلى الثقافة الفرنسية المتعجرفة، واضعاً المركزية الأوروبية ضمن سؤالها الحاد، ألا وهو سؤال الهيمنة، في الوقت الذي تنادي فيه هذه المركزية بالعدالة، وترفع شعار الإنسية.
يعيد عبد الكبير الخطيبي تركيب سؤال الثقافة العربية، ويعتبر أن الطريق السالك أمام العرب اليوم يكمن في تجديد سؤالهم الثقافي والعقلي، وإعادة النظر في البديهيات التي تحكم عمل هذه الثقافة المرتاحة إلى كلاسيكيتها. ومن هنا يأتي دفاعه عن دور السوسيولوجيا، وخطورة هذا الدور في النهوض الثقافي والحضاري، وفهم أيسر وأحسن للذات.
لكن أسئلة الجيل الجديد من العرب الكتاب بالفرنسية مختلفة تماماً، ويروق لوسائل الإعلام الفرنسية والغربية أن تقدّم بعض الأسماء لكُتّاب وكاتبات من أصول عربية على اعتبارهم الممثلين الحقيقيين وأحياناً الوحيدين لهذا النوع من الأدب. أي تقدم نوعاً من "شجرة تخفي الغابة"، وفي هذه الأوقات تظهر ليلى سليماني، الفرنسية المغربية صاحبة رواية "في حديقة الغول"، حيث الموضوع الرئيس هو الإدمان على الجنس، وقد أصبحت ضيفة على جميع البرامج الثقافية والأدبية الفرنسية، ومنحت جائزة المامونية، ومن قبلها كانت تظهر صفية عز
الدين، مغربية فرنسية، من مواليد 1979، اختارت مواضيعها، حسب ما يطلبه سوق الكتاب الفرنسي، وحسب ما يُنتَظَرُ من مؤلفين ينحدرون من أصول غير فرنسية، ولعل العناوين تكشف لنا ما نقوله، خاصة رواية "أبي يشتغل خادمة"، الذي تحوَّل بسرعة إلى فيلم سينمائي، ورواية "مكة- فوكيت" و"بلقيس"..
منفى اللغة
بعيداً عن "اللغة الفرنسية منفاي"، كما قال مالك حداد، أو "اللغة الفرنسية غنيمة حرب"، كما صرح كاتب ياسين، مرة، فقد رضع معظم هؤلاء الكُتّاب الفرنسيين، من أصول عربية، اللغة الفرنسية مع حليب أمهاتهم.
ولكن الذي يثير الألم بالنسبة لهؤلاء، الذين لا يرون أنفسَهُم مختلفين عن نظرائهم من الفرنسيين "الأصلاء"، هو انعدام الاعتراف الرسمي بكتاباتهم وأدبهم. باستثناء أقلية يُراد استقطابها أو تدجينها، وسرعان ما يتمّ تناسيها ثم تغرق في الصمت، أو تظل تعيش على الهامش.. وفي هذا الصدد صدر كتاب مشترك لكاتبين فرنسيين من أصول عربية، رشيد سانتاكي وإبراهيم شيخي
(من مواليد 1977 و1973) بعنوان "فرنسا الغد/ بيان" أراد فيه الكاتبان "مصالحة الجمهورية مع ضواحيها"، وحظي بتقديم بنجامان ستورا، رئيس متحف التاريخ والهجرة، نقرأ فيه: "إنه كتاب بعيد كل البعد عن الكليشيهات المرتبطة بالضواحي. يتعلق الأمر باستكشاف أخّاذ ودون تنازلات وبالغ التأثير، لفرنسا التي نعرفها بشكل سيئ، رغم أننا نتحدث عنها كثيراً".
الهويّة موجودة ولكنها متعددة أو متشظية، فهذان الكاتبان اللذان ولدا في ضاحية باريس، وبالتحديد في سين- سان- دوني، التي وجد فيها الإرهابيون ملجأً مؤقتاً لهم بعد اعتداءاتهم الأخيرة في باريس، لا يغيب عن بالهما إقامة موازاة مع أصولهما، إذ، كما يتساءل ستورا: "أليْست 93 (الرمز البريدي لهذه الضاحية الصعبة التي ينحدر أكثر من ثلث سكانها من المهاجرين)، في جوهر الأمر، مُشابِهة لهذه الأرض التي غادَرَها أسلافهما؟ هذا "البلد المؤقَّت" الذي يُرادُ مغادرَتُه من أجل تحقيق النجاح في مكان آخر؟".
وفي هذا الكتاب الذي ينصحنا ستورا بقراءة مؤلفَيْه والإنصات إليهما، يكتب رشيد سانتاكي، وهو روائي وسيناريست من أصول مغربية، في مقال له بعنوان لافت: "الحميمية كهويّة": "في عملي، كروائيّ، أرسم شخوصاً من الأحياء الشعبية، والذين أراقبهم وأعايشهم وأحبهم. في روايتي الأولى "الملائكة في ثياب الأوباش" أتتبع مسار إلياس، لص محتال، يعشق المال إلى درجة أنه لا يدري سبب سرقته للبطاقات المصرفية. في الرواية الثانية "أرقام وحروف"، أحكي عن هاشم، شاب حاصل على شهادة البكالوريا، وهو يبتعد عن دراساته اللامعة ليقتفي أثر نموذجه، حسين، زعيم الحي في بيع المخدرات". ويصل الكاتب الذي يعتبر أن هجمات 7 يناير/ كانون الثاني الإرهابية، كانت للأسف متوقعة، إلى توصيف حالة مقلقة: "الأكثر إثارة للقلق هو رؤية هؤلاء الشباب يتخيلون أن الأمر يتعلق بمؤامرة، ويستنتجون أن الحاصلين منهم على شهادات جامعية مرموقة لا يبعدون عن أذهانهم فكرة عن كونهم ضحية للمناورة ويكشفون عن انعدام ثقة تجاه الدولة والجمهورية وقِيَمِها".
مشكلة انتماء
المتتبع لهذا الأدب يلاحظ أن الكثير من الدارسين لا يزالون مترددين في وضع الأدب في الإطار الذي يستحقه، أي الأدب الفرنسي، بلا زيادة ولا نقصان، بدل الحديث تارة عن كُتّاب منحدرين من الهجرة وتارة أخرى عن كُتاب "الجيل الثاني" ثم "الجيل الثالث". وهي حالة نفسية رهيبة يشير إليها الروائي الفرنسي الكبير غابرييل ماتزنيف، ويقدم لها مشروع حلّ، حين يقول: "ولدتُ في فرنسا، وفيها تابعت دراستي، وأدّيتُ الخدمة العسكرية، وحين أصدرتُ كتابي الأول "التحدي"، لم أفكر، لهنيهة، اختيار اسم فرنسي مستعار، كما فعل ذلك من قبلي، أبولينير (الذي كان يُدعى كوستروفيتزكي) أو تْرُويَا (اسمه الأول: تاراسوف)، ولكني، اليومَ، أنصح الكتاب الشباب من أصول مغاربية أن يتخذوا لأنفسهم أسماء مستعارة من عندنا، من قبيل دوبونت أو دوران أو جيسكار".
يكتب هؤلاء بنفس اللغة الفرنسية، ويريدون أن يُنظَر إليهم من دون أي أفكار مسبقة، وقبل كل شيء أن يقرأوهم قبل أن يُصدروا أحكاماً. ولا يخفي بعض المؤلفين الفرنسيين الشباب، من أصول عربية، ومن بينهم مبروك راشدي وكوثر حرشي وحبيبة مْهنّي، في لقاء جمعهم مع جمهورهم، أن النقد الأدبي الفرنسي وبعض الصحافيين حين يتناولون أعمالهم يقومون باختزالها في "مسألة الضواحي"، و"حين يتعلق الأمر بالضواحي، لا يقصدون سوى منطقة سين سان دوني". كل هذا رغم أن كتاباتهم تتحدث عن الهوية أكثر مما تتحدث عن الضواحي. وكأن هؤلاء الكُتّاب لا يعرفون سوى الكتابة الواقعية ولا ينتبهون لما يسمى بالتخييل.
لغة وهويّات
ليس ثمة شك في أن معظم الكُتّاب الفرنسيين أو البلجيكيين من أصول عربية، ولدوا في الضواحي والأحياء الشعبية، فالعامل الاقتصادي والاجتماعي لا يمكن دحضه.
ولكن الهوية واللغة تتداخلان عند هؤلاء الكتّاب، وتكون درجة الهويّة بقدر القوة والتمكّن من اللغة التي يكتب بها الكاتب. ومن يتتبع هؤلاء الكتاب يلاحظ استعمالهم للغة خاصة بهم، وقاموساً خاصاً بهم، (وليست الكاتبة فائزة غوين، صاحبة رواية "كيف كيف، غداً"، سنة 2008، والتي أطلق عليها النقد "الفرنسي الأبوي"، حينها، "فرانسواز ساغان الضواحي" استثناء)
في أنطولوجيا رصينة عن كتاب الهجرة إلى فرنسا وبلجيكا، صدرت قبل خمس سنوات،
وأشرف عليها الباحث البلجيكي الجامعي لوك كوليس، تتبع الباحث مساراً تصاعدياً في الزمن، منطلقاً من النصوص الأولى للرواد تتحدث عن العزلة العاطفية للمهاجرين الأوائل عن ذويهم إلى أن وصل إلى نصوص تتحدث عن علاقات بين شباب مغاربيين وفرنسيين وبلجيكيين. ويلاحظ كوليس أن الأدب المغاربي في البداية كان مطبوعاً بقتل الأب أو المستوطن (أثناء الزمن الكولونيالي) إلى أن وصلنا، اليوم، إلى نصوص تتحدث عن تمرد الفتيات. وها نحن، بعد مُؤلّفين رواد كفرعون وشرايبي وبن جلون وبغاغ، نجد أنفسنا، الآن، مع جيل جديد تمثله مينة ولد الحاج وصابر عسال وغيرهما، وأصبحت المواضيع غير سابقاتها، حيث كل مؤلف يعلن عن صوته الخاص ومن خلال تنويعاته.
ومن بين هذه الأصوات نجد ليلى هواري، الكاتبة التي ولدت في الدار البيضاء وتقيم في بلجيكا، والتي تحضر عندها مسألة الهوية بشكل قوي، وولادتها في المغرب ووصولها إلى بلجيكا في سن السابعة لا بد وأنه لعب دوراً في شخصيتها. وليس غريباً أن أحد مؤلفاتها يحمل عنوان: "ضفاف هوياتية". كما تحضر مسألة الهوية، أيضاً، بقوة، عند كاتبة أخرى، من أصول مغربية مقيمة في بلجيكا، أمينة ولد الحاج، والتي أصدرت رواية: "أنت تُدْعين عائشة وليس جوزيفين"، ومعلوم أن هذه الكاتبة ولدت في المغرب والتحقت بوالدها المهاجر في بلجيكا.
وفي نص أوتوبيوغرافي جميل يحمل عنوان: "وُلدتْ في فرنسا: قصة شابة من الجيل الثاني للهجرة"، للكاتبة الفرنسية عائشة بنعيسي، من أصول جزائرية قبائلية، تتحدث عن التمزق الهوياتي، بين الحب الذي تكنه الساردة لوالديها والرغبة في الاندماج في المجتمع الفرنسي.
نفس الثيمات تحضر لدى الكاتب البلجيكي من أصول مغربية، صابر عسال، وأيضا لدى الروائية البلجيكية من أصول جزائرية، مليكة مادي (من مواليد 1967).
ثيمات مختلفة وحضور هوياتي، ليس قاتلاً، كما يقصد أمين معلوف في كتابه الشهير، وكل هذا في لغة فرنسية، تخرُجُ، بعد كل مُؤلَّف وبعد كل تجربة كتابية، أغنى مما كانت. أي لغة فرنسية خلاسية، بامتياز. لكن يجب انتظار بعض الوقت، حتى يتخلى الفرنسيون وفرنسيو بلجيكا عن بعض كبريائهم وينفتحوا على كل هذه الإضافات المثمرة، حتماً.
علاقة صامتة
يصف الكاتب المغربي علاقته باللغة الفرنسية، والتي أبرزها في كتابه "النقد المزدوج" بأنها علاقة صامتة، يشرح ذلك كالتالي: كانت اللغة الفرنسية بالنسبة لي وأنا طفل، لغة صامتة منحصرة في القراءة وأداء بعض الفروض المدرسية. أقول لغة صامتة لا ميتة كما هو حال اللغتين اللاتينية والإغريقية بالنسبة لعدد كبير من فرنسيي جيلي. كانت واجباً ومادة تعليمية وزهداً يحاصرنا داخل دير للخشوع والشك والتيه. لم نكن نتحدث بها إلى أي أحد. هذا اللاأحد كان يرتدي قناعا وكنت أجاوره هناك في المدرسة وفي الشارع. ويضيف متحدثاً عن تلك الازدواجية: لم يكن الأمر، بهذا المعنى، متعلقاً بإحلال لغة الأم بل بلغة كتابة محل ازدواجية لغوية لا تطاق. إذ كان علي أن أتكلم في لغة وأكتب في أخرى. وبفعل الهوة القائمة بين اللغات السامية ونظيراتها اللاتينية فقد كنت أعيش داخل صراع ضار. كانت تلك هويتي كناسخ وكراو وككاتب سيرة ذاتية.
إقرأ أيضا: ماتياس إينار: "بوصلة" غونكور تتجّه شرقاً
فهو مثقف متعدد، كتب باللسان الفرنسي قضايا من صميم الثقافة العربية، وهنا أهمية عمله السجالي، في كتابه بالغ الأهمية النقد المزدوج، والذي وجه فيه نقداً لاذعاً إلى الثقافة العربية المتحجرة، وإلى الثقافة الفرنسية المتعجرفة، واضعاً المركزية الأوروبية ضمن سؤالها الحاد، ألا وهو سؤال الهيمنة، في الوقت الذي تنادي فيه هذه المركزية بالعدالة، وترفع شعار الإنسية.
يعيد عبد الكبير الخطيبي تركيب سؤال الثقافة العربية، ويعتبر أن الطريق السالك أمام العرب اليوم يكمن في تجديد سؤالهم الثقافي والعقلي، وإعادة النظر في البديهيات التي تحكم عمل هذه الثقافة المرتاحة إلى كلاسيكيتها. ومن هنا يأتي دفاعه عن دور السوسيولوجيا، وخطورة هذا الدور في النهوض الثقافي والحضاري، وفهم أيسر وأحسن للذات.
لكن أسئلة الجيل الجديد من العرب الكتاب بالفرنسية مختلفة تماماً، ويروق لوسائل الإعلام الفرنسية والغربية أن تقدّم بعض الأسماء لكُتّاب وكاتبات من أصول عربية على اعتبارهم الممثلين الحقيقيين وأحياناً الوحيدين لهذا النوع من الأدب. أي تقدم نوعاً من "شجرة تخفي الغابة"، وفي هذه الأوقات تظهر ليلى سليماني، الفرنسية المغربية صاحبة رواية "في حديقة الغول"، حيث الموضوع الرئيس هو الإدمان على الجنس، وقد أصبحت ضيفة على جميع البرامج الثقافية والأدبية الفرنسية، ومنحت جائزة المامونية، ومن قبلها كانت تظهر صفية عز
منفى اللغة
بعيداً عن "اللغة الفرنسية منفاي"، كما قال مالك حداد، أو "اللغة الفرنسية غنيمة حرب"، كما صرح كاتب ياسين، مرة، فقد رضع معظم هؤلاء الكُتّاب الفرنسيين، من أصول عربية، اللغة الفرنسية مع حليب أمهاتهم.
ولكن الذي يثير الألم بالنسبة لهؤلاء، الذين لا يرون أنفسَهُم مختلفين عن نظرائهم من الفرنسيين "الأصلاء"، هو انعدام الاعتراف الرسمي بكتاباتهم وأدبهم. باستثناء أقلية يُراد استقطابها أو تدجينها، وسرعان ما يتمّ تناسيها ثم تغرق في الصمت، أو تظل تعيش على الهامش.. وفي هذا الصدد صدر كتاب مشترك لكاتبين فرنسيين من أصول عربية، رشيد سانتاكي وإبراهيم شيخي
الهويّة موجودة ولكنها متعددة أو متشظية، فهذان الكاتبان اللذان ولدا في ضاحية باريس، وبالتحديد في سين- سان- دوني، التي وجد فيها الإرهابيون ملجأً مؤقتاً لهم بعد اعتداءاتهم الأخيرة في باريس، لا يغيب عن بالهما إقامة موازاة مع أصولهما، إذ، كما يتساءل ستورا: "أليْست 93 (الرمز البريدي لهذه الضاحية الصعبة التي ينحدر أكثر من ثلث سكانها من المهاجرين)، في جوهر الأمر، مُشابِهة لهذه الأرض التي غادَرَها أسلافهما؟ هذا "البلد المؤقَّت" الذي يُرادُ مغادرَتُه من أجل تحقيق النجاح في مكان آخر؟".
وفي هذا الكتاب الذي ينصحنا ستورا بقراءة مؤلفَيْه والإنصات إليهما، يكتب رشيد سانتاكي، وهو روائي وسيناريست من أصول مغربية، في مقال له بعنوان لافت: "الحميمية كهويّة": "في عملي، كروائيّ، أرسم شخوصاً من الأحياء الشعبية، والذين أراقبهم وأعايشهم وأحبهم. في روايتي الأولى "الملائكة في ثياب الأوباش" أتتبع مسار إلياس، لص محتال، يعشق المال إلى درجة أنه لا يدري سبب سرقته للبطاقات المصرفية. في الرواية الثانية "أرقام وحروف"، أحكي عن هاشم، شاب حاصل على شهادة البكالوريا، وهو يبتعد عن دراساته اللامعة ليقتفي أثر نموذجه، حسين، زعيم الحي في بيع المخدرات". ويصل الكاتب الذي يعتبر أن هجمات 7 يناير/ كانون الثاني الإرهابية، كانت للأسف متوقعة، إلى توصيف حالة مقلقة: "الأكثر إثارة للقلق هو رؤية هؤلاء الشباب يتخيلون أن الأمر يتعلق بمؤامرة، ويستنتجون أن الحاصلين منهم على شهادات جامعية مرموقة لا يبعدون عن أذهانهم فكرة عن كونهم ضحية للمناورة ويكشفون عن انعدام ثقة تجاه الدولة والجمهورية وقِيَمِها".
مشكلة انتماء
المتتبع لهذا الأدب يلاحظ أن الكثير من الدارسين لا يزالون مترددين في وضع الأدب في الإطار الذي يستحقه، أي الأدب الفرنسي، بلا زيادة ولا نقصان، بدل الحديث تارة عن كُتّاب منحدرين من الهجرة وتارة أخرى عن كُتاب "الجيل الثاني" ثم "الجيل الثالث". وهي حالة نفسية رهيبة يشير إليها الروائي الفرنسي الكبير غابرييل ماتزنيف، ويقدم لها مشروع حلّ، حين يقول: "ولدتُ في فرنسا، وفيها تابعت دراستي، وأدّيتُ الخدمة العسكرية، وحين أصدرتُ كتابي الأول "التحدي"، لم أفكر، لهنيهة، اختيار اسم فرنسي مستعار، كما فعل ذلك من قبلي، أبولينير (الذي كان يُدعى كوستروفيتزكي) أو تْرُويَا (اسمه الأول: تاراسوف)، ولكني، اليومَ، أنصح الكتاب الشباب من أصول مغاربية أن يتخذوا لأنفسهم أسماء مستعارة من عندنا، من قبيل دوبونت أو دوران أو جيسكار".
يكتب هؤلاء بنفس اللغة الفرنسية، ويريدون أن يُنظَر إليهم من دون أي أفكار مسبقة، وقبل كل شيء أن يقرأوهم قبل أن يُصدروا أحكاماً. ولا يخفي بعض المؤلفين الفرنسيين الشباب، من أصول عربية، ومن بينهم مبروك راشدي وكوثر حرشي وحبيبة مْهنّي، في لقاء جمعهم مع جمهورهم، أن النقد الأدبي الفرنسي وبعض الصحافيين حين يتناولون أعمالهم يقومون باختزالها في "مسألة الضواحي"، و"حين يتعلق الأمر بالضواحي، لا يقصدون سوى منطقة سين سان دوني". كل هذا رغم أن كتاباتهم تتحدث عن الهوية أكثر مما تتحدث عن الضواحي. وكأن هؤلاء الكُتّاب لا يعرفون سوى الكتابة الواقعية ولا ينتبهون لما يسمى بالتخييل.
لغة وهويّات
ليس ثمة شك في أن معظم الكُتّاب الفرنسيين أو البلجيكيين من أصول عربية، ولدوا في الضواحي والأحياء الشعبية، فالعامل الاقتصادي والاجتماعي لا يمكن دحضه.
ولكن الهوية واللغة تتداخلان عند هؤلاء الكتّاب، وتكون درجة الهويّة بقدر القوة والتمكّن من اللغة التي يكتب بها الكاتب. ومن يتتبع هؤلاء الكتاب يلاحظ استعمالهم للغة خاصة بهم، وقاموساً خاصاً بهم، (وليست الكاتبة فائزة غوين، صاحبة رواية "كيف كيف، غداً"، سنة 2008، والتي أطلق عليها النقد "الفرنسي الأبوي"، حينها، "فرانسواز ساغان الضواحي" استثناء)
في أنطولوجيا رصينة عن كتاب الهجرة إلى فرنسا وبلجيكا، صدرت قبل خمس سنوات،
ومن بين هذه الأصوات نجد ليلى هواري، الكاتبة التي ولدت في الدار البيضاء وتقيم في بلجيكا، والتي تحضر عندها مسألة الهوية بشكل قوي، وولادتها في المغرب ووصولها إلى بلجيكا في سن السابعة لا بد وأنه لعب دوراً في شخصيتها. وليس غريباً أن أحد مؤلفاتها يحمل عنوان: "ضفاف هوياتية". كما تحضر مسألة الهوية، أيضاً، بقوة، عند كاتبة أخرى، من أصول مغربية مقيمة في بلجيكا، أمينة ولد الحاج، والتي أصدرت رواية: "أنت تُدْعين عائشة وليس جوزيفين"، ومعلوم أن هذه الكاتبة ولدت في المغرب والتحقت بوالدها المهاجر في بلجيكا.
وفي نص أوتوبيوغرافي جميل يحمل عنوان: "وُلدتْ في فرنسا: قصة شابة من الجيل الثاني للهجرة"، للكاتبة الفرنسية عائشة بنعيسي، من أصول جزائرية قبائلية، تتحدث عن التمزق الهوياتي، بين الحب الذي تكنه الساردة لوالديها والرغبة في الاندماج في المجتمع الفرنسي.
نفس الثيمات تحضر لدى الكاتب البلجيكي من أصول مغربية، صابر عسال، وأيضا لدى الروائية البلجيكية من أصول جزائرية، مليكة مادي (من مواليد 1967).
ثيمات مختلفة وحضور هوياتي، ليس قاتلاً، كما يقصد أمين معلوف في كتابه الشهير، وكل هذا في لغة فرنسية، تخرُجُ، بعد كل مُؤلَّف وبعد كل تجربة كتابية، أغنى مما كانت. أي لغة فرنسية خلاسية، بامتياز. لكن يجب انتظار بعض الوقت، حتى يتخلى الفرنسيون وفرنسيو بلجيكا عن بعض كبريائهم وينفتحوا على كل هذه الإضافات المثمرة، حتماً.
علاقة صامتة
يصف الكاتب المغربي علاقته باللغة الفرنسية، والتي أبرزها في كتابه "النقد المزدوج" بأنها علاقة صامتة، يشرح ذلك كالتالي: كانت اللغة الفرنسية بالنسبة لي وأنا طفل، لغة صامتة منحصرة في القراءة وأداء بعض الفروض المدرسية. أقول لغة صامتة لا ميتة كما هو حال اللغتين اللاتينية والإغريقية بالنسبة لعدد كبير من فرنسيي جيلي. كانت واجباً ومادة تعليمية وزهداً يحاصرنا داخل دير للخشوع والشك والتيه. لم نكن نتحدث بها إلى أي أحد. هذا اللاأحد كان يرتدي قناعا وكنت أجاوره هناك في المدرسة وفي الشارع. ويضيف متحدثاً عن تلك الازدواجية: لم يكن الأمر، بهذا المعنى، متعلقاً بإحلال لغة الأم بل بلغة كتابة محل ازدواجية لغوية لا تطاق. إذ كان علي أن أتكلم في لغة وأكتب في أخرى. وبفعل الهوة القائمة بين اللغات السامية ونظيراتها اللاتينية فقد كنت أعيش داخل صراع ضار. كانت تلك هويتي كناسخ وكراو وككاتب سيرة ذاتية.
إقرأ أيضا: ماتياس إينار: "بوصلة" غونكور تتجّه شرقاً