اليأس أقوى من الأمل
اليأس يستوطن ثنايا الأمل، متغلْغِل في ندوبه. تجده في الوقت. الأمل يحتاج إلى وقت أطول من حياة واحدة. كلما مرّ الوقت، كلما مرّ العمر، يسجّل الأمل انتكاسة. ولا مرّة يحرز "انتصاراً"، إلا على كذبة معطوفة على خراب. ومن أطلال هذا الخراب، يطلع عليك أصحاب "الدروس" المحفوظة. أنه "يستحيل" أن تنجح ثانية، بعد الكبوات، من دون أن تبذل جهوداً على مدى سنوات، سنوات من التضحية والصبر والاستشهاد. هذه الدورات من "الأمل المتجدّد" اصطناعياً، لا تتوقف عن "المبادرة" إلى القيام ببدايات. بدايات جديدة، متجدّدة، تتسوّل الجهد نفسه، الصبر نفسه، وعلى امتداد سنوات.
الأمل يضيّع وقتنا. مهما كان الجيل الذي ننتمي إليه. أصحاب "التجارب" السابقة، الفاشلة كلها، صاروا الآن فوق الستين من العمر. لم يبقَ لهم كثيرٌ من السنوات لـ"يراكموا". هم أصلاً أمضوا شبابهم بـ"المراكمة". تجد أحياناً من بينهم من يصرّ على العملية، حفاظاً ربما على دوره القديم. يشحنها بدعوته إلى إعادة إحياء مشروعه الفاشل السابق، والذي أثبت دائما أنه "كان على حق". ما يحتاج إلى جرعةٍ عاليةٍ من الافتعال.
ومن بين مريديهم الأقل جاهاً، هناك الأكثر تواضعا وميدانية. هؤلاء يتسلّحون بأقصى درجات الأمل لإقناع الجيل اللاحق، صاحب التجربة المحدودة، بالمشاركة في نضاله، على طريقته. ولكن غالبية هذا الجيل لا تأبه بتلك المشاريع القديمة التي بُذلت الأنفس من أجلها. الجيل الوسيط اخترع مشاريع الأمل، وهو ماضٍ في مراكمة وصبر وتضحيات.
لو يئس "المنبعثون من بين الركام" لقالوا إنهم يتحمّلون مسؤولية قلّة بصيرتهم، خطأ تقويمهم، كثرة تسوياتهم أو قلتها، أو أي شيء آخر.
وقد يكون الجيل الأصغر أكثر قابليةً للأمل الجديد. تجده في المتطوّعين الكُثر الذين هرعوا إلى مكان انفجار بيروت النووي، ليسعفوا المتضررين ويكنِّسوا الشوارع، ويرمّموا البيوت المتهدّمة .. إلخ. واضح أن هؤلاء أصحاب أمل نضِر، جديد على حياتهم. لم يختبروا قبل الإنفجار ما يزجّهم في أملٍ كهذا.
وبين الجيل الأقدم والآخر، الأحدث، تجد مرْوحةً من الذين تأملوا وخابوا، وعادوا إلى الأمل من جديد. ولكن إذا اردتَ أن تُحصي مبرّرات اليأس، على أساس الأجيال، سوف تجد أن الذين عاشوا كذا حياة، كذا انفجار، كذا بدايات أخرى، هم الأكثر خبرة. ومعهم كلهم رشْفات عالية من الأمل ما لبثت أن خابت وماتت. من بينهم من هجر كل شيءٍ وهاجر. وآخرون دخلوا في روتين الأمل. لم يناكفوا الأمل، اعتادوه. صار جزءاً من تفكيرهم. طريقة صوفية في الحياة.
إليكَ لوحة الأجيال التي عاصرناها، من الشيوخ إلى المراهقين، فيها حركة دورية: صعود حركة سياسية خارجة عن الحكم إلى ذروة إمكاناتها. ثم هبوطها، وأحيانا انسحاقها أو مصادرتها. وبعد ذلك، دعوة إلى عدم اليأس. إلى بذل التضحية، إلى الصبر. فصعود آخر، ينتهي بضربة. يليها الدرس الأبدي، أننا نحتاج إلى جهود على مدى سنوات .. وهكذا. الأشخاص أنفسهم، ومعهم آخرون يصغرونهم عمراً وتجربة دخولهم في نفق الأمل، وخروجهم منه، بأمل آخر.
اليأس أقوى. لأن الأمل سهل. فيه خطيئة عن معنى الحياة، أنها دورة لامتناهية من الأعمار المتروكة على قارعة الطريق.
وكأن لا أحد يتحمّل مسؤولية الفشل. كأن الأمل هو الواجهة "الأيديولوجية" لـ"النهوض مجدّدا". لم يُعِلن إلا القليلون عن مسؤوليتهم عن الذي أودى إلى الفشل، أو الهزيمة. لو يئس هؤلاء "المنبعثون من بين الركام" لقالوا إنهم يتحمّلون مسؤولية قلّة بصيرتهم، خطأ تقويمهم، كثرة تسوياتهم أو قلتها، أو أي شيء آخر... لَتَنَحّوا جانباً، فصاروا أكثر حريةً في الإعلان الصريح عن فشلهم .. بعد ذلك، بدايات أخرى، بأدواتٍ قديمةٍ جديدة. وأمل يقفز من فوق السطور، ويزيّن لصاحبه انتصاراتٍ وهمية كالتي سبقت، فيما مكتوبٌ على الاثنين، من قديم وجديد، الفشل الذريع. حتى هذه اللحظة على الأقل.
اليأس أقوى من الأمل. في الأخير ادّعاء بمعرفةٍ شاملةٍ، بإحاطة بكل التفاصيل، بتوقع أكيد. فيما اليأس علم بعدم العلم. ربما من كثرة العلم، أو من تفادي دهاليز النقاشات البيزنطية، أو صفاء الذهن. إنه، أي اليأس هنا، من باب حكمة المعرفة بعدم المعرفة، بعدم التوقُّع.
أيضاً، اليأس أقوى. لأن الأمل سهل. فيه خطيئة عن معنى الحياة، أنها دورة لامتناهية من الأعمار المتروكة على قارعة الطريق. حيوات عدّة، أحداثٌ تأسيسيةٌ لا تُحصى، حروب، انتفاضات، مجازر، أو انفجارات .. كلها تضع نصب أعينها وقوداً من رجال ونساء، يحملون الأمل، لا ييأسون، لا يراجعون، لا يتساءلون .. يمشون بأعمارهم وكأنها من ضرورات الموت. اليأس يبدأ صعباً، أحيانا مستحيلاً. ولكنه لا ينتهي لا بخيبةٍ، ولا بكبوة. لا غرابة إذا بلغ صاحبه اليأس. يرى، يراقب، يحاول أن يفهم، يقرأ في الكتاب نفسه. ولكنه لا ينصّب نفسه وصيا على الفينيق، ناطقا باسمه، ليعِدَنا بأننا سوف "ننبعث من جديد".
اليأس وفيرٌ والأمل ضئيل. اليأس جذري، راديكالي، فيما الأمل ترقيعيٌّ، مصنوع
اليأس أقوى، لأنه يتفادى كسلاً ذهنياً يرافق صاحب الأمل. كسلٌ تصاحبه طاقةٌ خاصة، صاحبها يمجّدها، يجد فيها منبع الحياة والاستمرار على قيدها. تلك الطاقة التي تجعله يتحمّل تعقيدات وتركيبات الكلام الذي يتصدر الأمل. فيما هذا الأخير، أي الأمل، ليس له برهان.
اليأس أقوى لأنه يعفيك من محرّك الأمل الذي يلزم صاحبه بإسباغ وقائع على الوقائع، لكي يقوم "تحليله" على رجلَيه، ويستمر. يبدو للوهلة الأولى أن اليأس أسهل من الأمل، أخلاقياً. وقد يكون كذلك عند بعض المتردِّدين. ولكن إذا كنتَ مسؤولاً عن يأسك، عليكَ أن تدافع عنه بمزيد من الطاقة الذهنية. أن تشحذ ذهنك، أن تشذّبه. وما يساعدك على ذلك، حريتكَ، أي مسؤوليتك الشخصية في تحمل تبِعات تلك الحرية.
اليأس أقوى من الأمل. ولكنه ليس أكثر تيسّرا منه. ولا أقل إيلاماً، فاليأس وفيرٌ والأمل ضئيل. اليأس جذري، راديكالي، فيما الأمل ترقيعيٌّ، مصنوع. اليأس الذي أعنيه ينتمي إلى "الآن، هنا". في هذه اللحظة، في هذه البقعة من الكوكب. وهو ليس استسلاماً. أي أنه ليس تسليماً بالخراب والموت. إنها فكرةٌ مؤقتة، لا تدّعي الارتقاء إلى أكثر. تكمن حصانتها في أصالتها، في عدم حاجتها إلى التحليل المتكلّف والمرتبك، أو الأغاني، أو الفولكلور. هي فكرةٌ نابعةٌ من أبسط معيوشها، من أبسط تعبيرات هذا المعيوش. وقد تنطوي بدورها على "بدايات"، ولكن لا بد من تجربتها. فقط لكي لا نقول، عند انتهاء أعمارنا، إن اليأس كان هنا، أمامنا، بوجهنا، ولم نره، لم نحاول. يجدر تجربة اليأس، طالما أننا أصلاً بصدد بدايات. كل حياتنا بدايات.