يملك اليمن إرثاً ثقافياً قلّ نظيره في العالم العربي، بالنظر إلى ما يزخر به من معالم ومعارف. كانت المدن اليمنية عبارة عن معارض للعمارة في الهواء الطلق المفتوح، إذ يمكن لأيّ إنسان أن يعاين تطور العمارة اليمنية وجمالياتها في كلّ حي من أحياء المدن والأرياف، وصولاً إلى الطراز التقليدي النادر من الجماليات التي طورها الإنسان اليمني على امتداد مئات السنين، والتي لم تسحقها الحداثة المستوردة بعد. أيضاً هناك ما كان يفاخر به اليمن على صعيد وفرة مخطوطاته المكتوبة بخط يد مؤلفيها وتلاميذهم، والتي تزخر بها المكتبات والجوامع والمدارس القديمة، وهذه معرضة للتبدد في الأطوار المتلاحقة من حروب بلاد اليمن السعيد.
الآن تبدو صورة الأوضاع في اليمن شائكة، وتبدو تلك الحروب التي تدور بين أحياء المدن وعلى أطرافها وفي الجبال، كأن لا نهاية مرئية لها، ولذلك فالصورة تبدو انعكاساً لأحوال القتال الدائر من دون هوادة أو هدنات. الهيئات الدولية والأممية تحاول العمل من أجل إنقاذ الناس من الجوع والعطش والكوليرا والأمية وبعدها لكلّ حادث حديث. أما الحديث عن الكتاب والمكتبة فله زمن آتٍ، فالأطراف المحلية المنغمسة في الصراع تعمل على كسب الحرب حتى ولو على جثة اليمن. مع ذلك، هناك ما يمكن أن يقال على صعيد المكتبة العامة.
قبل ذلك، نشير إلى أنّ حضارة اليمن الموغلة في القدم عبر ممالكها المعروفة أولت اهتماماً للخط والحرف، ونقشت ما تريد قوله على الحجارة، وأمكن بعد جهود مضنية إحياء هذه اللغات وتفكيك رموزها إلى هذا الحد أو ذاك، وبات في الإمكان معرفة سلاسل ملوكها وحكامها وتجارتهم. الحصيلة أنّ البلاد التي كانت تحاول النهوض سرعان ما عادت إلى الغرق في مستنقعات صراعاتها القبائلية. مع ذلك، كانت تلك الحروب تدور وتحسم تقريباً في المرتفعات الجبلية الوعرة، لذلك حافظت بيوت العلم على دورها كحافظة لعلوم السابقين من علماء اليمن وغيرهم. وكانت الغرف الملحقة بالمساجد زاخرة بالمخطوطات التي كتبت على مدار القرون تبحث عمن ينفض عنها غبار الإهمال.
ظل الوضع على هذا النحو، لكنّ الحداثة كانت تدق الأبواب عبر الجامعة وصنوف الخريجين من الجامعات المصرية والعربية الأخرى والدولية، وبات اليمن على نقيضين: بنية قبائلية لها جذورها، ومعالم نهضة تقطع الحروب سياقها الطبيعي عندما تتحول البلاد إلى ورقة صراع إقليمي تدفع ثمنه من لحمها الحي.
بين المعرض المفتوح على المشاهدين والمستعصي على الحدود المكانية والانفجارات، كان اليمن يتلمس خطاه بصعوبة وسط فقدان الموارد البشرية والمادية التي تزخر بها دول قريبة وبعيدة.
اقــرأ أيضاً
الآن، انقلب الوضع رأساً على عقب وغرقت البلاد بفوضى قواها القبلية والسلطوية والتداخلات الإقليمية المتنازعة. ومن البديهي أن تصيب المدافع والصواريخ التي دكت المدن وقتلت كثيراً من معالم الحياة، البلاد بمقاتل يصعب الشفاء منها. ينسحب الوضع على كلّ جوانب الحياة وليس على المكتبة العامة التي كانت تسعى إلى القيام بدورها التي وُجدت من أجله، بما هو خدمة القارئ الباحث عن المعرفة. فمن قال إنّ الحروب تتطلب المعرفة؟ ربما تتطلب المعرفة بالسلاح، أما المعرفة بما هي محيط العلوم فلا مجال لها ولا مكان.
*باحث وأكاديمي
الآن تبدو صورة الأوضاع في اليمن شائكة، وتبدو تلك الحروب التي تدور بين أحياء المدن وعلى أطرافها وفي الجبال، كأن لا نهاية مرئية لها، ولذلك فالصورة تبدو انعكاساً لأحوال القتال الدائر من دون هوادة أو هدنات. الهيئات الدولية والأممية تحاول العمل من أجل إنقاذ الناس من الجوع والعطش والكوليرا والأمية وبعدها لكلّ حادث حديث. أما الحديث عن الكتاب والمكتبة فله زمن آتٍ، فالأطراف المحلية المنغمسة في الصراع تعمل على كسب الحرب حتى ولو على جثة اليمن. مع ذلك، هناك ما يمكن أن يقال على صعيد المكتبة العامة.
قبل ذلك، نشير إلى أنّ حضارة اليمن الموغلة في القدم عبر ممالكها المعروفة أولت اهتماماً للخط والحرف، ونقشت ما تريد قوله على الحجارة، وأمكن بعد جهود مضنية إحياء هذه اللغات وتفكيك رموزها إلى هذا الحد أو ذاك، وبات في الإمكان معرفة سلاسل ملوكها وحكامها وتجارتهم. الحصيلة أنّ البلاد التي كانت تحاول النهوض سرعان ما عادت إلى الغرق في مستنقعات صراعاتها القبائلية. مع ذلك، كانت تلك الحروب تدور وتحسم تقريباً في المرتفعات الجبلية الوعرة، لذلك حافظت بيوت العلم على دورها كحافظة لعلوم السابقين من علماء اليمن وغيرهم. وكانت الغرف الملحقة بالمساجد زاخرة بالمخطوطات التي كتبت على مدار القرون تبحث عمن ينفض عنها غبار الإهمال.
ظل الوضع على هذا النحو، لكنّ الحداثة كانت تدق الأبواب عبر الجامعة وصنوف الخريجين من الجامعات المصرية والعربية الأخرى والدولية، وبات اليمن على نقيضين: بنية قبائلية لها جذورها، ومعالم نهضة تقطع الحروب سياقها الطبيعي عندما تتحول البلاد إلى ورقة صراع إقليمي تدفع ثمنه من لحمها الحي.
بين المعرض المفتوح على المشاهدين والمستعصي على الحدود المكانية والانفجارات، كان اليمن يتلمس خطاه بصعوبة وسط فقدان الموارد البشرية والمادية التي تزخر بها دول قريبة وبعيدة.
الآن، انقلب الوضع رأساً على عقب وغرقت البلاد بفوضى قواها القبلية والسلطوية والتداخلات الإقليمية المتنازعة. ومن البديهي أن تصيب المدافع والصواريخ التي دكت المدن وقتلت كثيراً من معالم الحياة، البلاد بمقاتل يصعب الشفاء منها. ينسحب الوضع على كلّ جوانب الحياة وليس على المكتبة العامة التي كانت تسعى إلى القيام بدورها التي وُجدت من أجله، بما هو خدمة القارئ الباحث عن المعرفة. فمن قال إنّ الحروب تتطلب المعرفة؟ ربما تتطلب المعرفة بالسلاح، أما المعرفة بما هي محيط العلوم فلا مجال لها ولا مكان.
*باحث وأكاديمي