وتجّلت أزمة المعارضة، في المؤتمر الاستثنائي الذي عقده "الشعب الجمهوري"، في بداية الشهر الحالي، كما أكّد القيادي في الحزب، محرم إينجة، الأمر أثناء حملته لزعامة الحزب التي خسرها مرة أخرى أمام كمال كلجدار أوغلو، ملخصاً أسباب ترشّحه بالضيق الذي بدأ الحزبيون يشعرون به جراء الهزائم الانتخابية المتوالية، قائلاً "أعدكم إذا تمّ انتخابي بأنه لن يتم إطفاء الأنوار باكراً في مقرّ الحزب ليلة الانتخابات وكأنه منزل عزاء".
وأظهرت الانتخابات الحزبية الأخيرة أن "الشعب الجمهوري" يفتقد إلى القيادة، ويتهمه أنصاره بالتخبط، الأمر الذي أكده المتحدث باسم الكتلة البرلمانية للحزب إينغين أتلاي، أثناء افتتاح المؤتمر الاستثنائي، مشيراً إلى أن "الحزب تولّى أمر تشكيل الحكومة للمرة الأخيرة عام 1977، بقيادة بولنت أجاويد الذي عاد إلى الحكم عام 1999 إنما كقائد للحزب اليساري الديمقراطي الذي انشق عن الشعب الجمهوري".
ولم تكن الإخفاقات المتتالية أمراً سهلاً للحزب الذي أسس الجمهورية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، محاولاً تحديث البلاد عبر بناء دولة قومية تُنكر وجود الأقليات وتتخذ من العلمانية شعاراً أوحد، مما حوّله إلى العدو الأول للمتدينين والأقليات، أي أكثرية المواطنين. وعلى الرغم من المحاولات العديدة للتقرب من الشعب وإعادة إنتاج تاريخ الحزب بما يسمح للشعب أن يغفر له المجازر العديدة التي تم ارتكابها في عهد إدارته للبلاد، سواء بحق الأكراد أو العلويين أو المتدينين، غير أن الأمر لم يكن ذا جدوى كبيرة، فأقصى ما استطاع الحزب تحقيقه في ظلّ قيادة كلجدار أوغلو، منذ وصوله للزعامة عام 2010، هو رفع نسبة الأصوات من 20 ـ 21 في المائة إلى 27 ـ 28 في المائة، ولكن يبقى هذا الأمر بعيداً جداً عن التحوّل إلى حزب يهدد حكم "العدالة والتنمية".
ويقود كلجدار أوغلو، حملة لإعادة مراجعة شاملة لمواقف الحزب، وعلى الرغم من أنه يعرّف نفسه كـ"ديمقراطي اجتماعي"، إلا أنه يواجه الكثير من الاتهامات والانتقادات من قبل التيار الراديكالي العلماني في الحزب، بقيادة زعيم الحزب السابق دينيز بايكال، بأنه بدأ يجرّ الحزب نحو اليمين المتديّن، خصوصاً بعد ترشيح المحافظ المتديّن أكمل الدين إحسان أوغلو للرئاسة بالاشتراك مع حزب "الحركة القومية"، بدلاً من ترشيح أحد رموز الحزب العلمانيين.
وكشفت الاتهامات الكثيرة بأن الحركة بدأت بـ"التغلغل" في "الشعب الجمهوري" بعد الصدام الذي جرى بين حركة "الخدمة" و"العدالة والتنمية"، بل وأكثر من ذلك فقد اتهم العديد من الحزبيين فتح الله غولن بـ"الوقوف وراء ترشيح إحسان أوغلو"، لكن كلجدار أوغلو، نفى ذلك جملة وتفصيلاً.
وأشار إلى أن "مواقف الحزب من كارثة منجم سوما، واحتجاجات حديقة غيزي تؤكد بأنه بعيد عن اليمين". وأردف بلهجة عصبية "أنا كمال الثوري، سأقوم بتنظيف الحزب من النخبة التي لا تعمل بين الشعب لنجاح الحزب، وتكتفي بالعمل على الحفاظ على تركيا حول طاولات العرق".
وفي ظلّ صعود التديّن في المجتمع التركي يحاول كلجدار أوغلو التصالح مع المتدينين الذين أصبحوا يشكلون الأكثرية الانتخابية، إذ قاد مجموعة من التغيرات الثورية في الحزب، بل وكسر الكثير من التابوهات، والتي كان آخرها إعلان وريث الكمالية قبل أيام، بأنه أدّى العمرة سرّاً دون إعلان أو صخب، قائلاً إنه "إنسان مؤمن ومن المعيب أن يتعبَّد الإنسان من أجل الرياء".
كما ربط بين الفكر الاجتماعي الديمقراطي، الذي يتبنّاه، بالدين الإسلامي، إذ أكد في لقاء مع الإعلامية بالجيجك بامير، على قناة "خبر تورك"، أنه يتبنّى فكراً اجتماعياً ديمقراطياً. وأضاف "فلسفتنا هي ما قاله نبينا محمد: ليس منا من بات شبعان وجاره جائع". وأعرب عن استيائه من توظيف هويته العلوية في الساحة السياسية للهجوم عليه، وتساءل "هل أنا ملحد؟ لا، أنا مسلم، أؤمن بالله والرسول محمد، وأهل البيت، والقرآن، فمن الذي سيحاسبني على تديني؟".
ولم يتوقف الأمر على هذا، بل ضم كلجدار أوغلو، العديد من الرموز السياسية الإسلامية إلى الحزب، والتي كان آخرها عضو حزب "السعادة" الإسلامي السابق محمد بكار أوغلو، الذي انتُخب لعضوية مجلس الحزب بعد انضمامه إليه ليتسلم نائب قائد الحزب للعلاقات العامة، إذ أكد الأخير بأن "على الحزب المضيّ قدماً في سياساته الاجتماعية الديمقراطية بطبيعة الحال، وفق الفهم الذي قدمه كلجدار أوغلو". ودعا بكار أوغلو، إلى "ترشيح برلمانيات محجبات في صفوف حزب الشعب الجمهوري".
وكانت عملية السلام مع حزب "العمال" الكردستاني من القضايا الملحّة التي تغيّر فيها موقف الحزب جذرياً، فبعد معارضتها بالكامل، بدأ كلجدار أوغلو بالحديث عنها كأمر لا بدّ منه، ولا يمكن أن يتم تركه للعسكر، بل لا بد من حله ضمن الديمقراطية وضمان وحدة البلاد.
وفي أثناء زيارته لديار بكر، قلعة "الحركة القومية" الكردية، في يونيو/حزيران الماضي، قبل الانتخابات الرئاسية، أثناء محاولته لمّ شمل المعارضة وراء مرشح واحد، أكد كلجدار أوغلو، في أثناء خطابه "بأن حزب الشعب الجمهوري الحالي لا يشبه الشعب الجمهوري في الثلاثينيات (الذي اعتقل وقتل الأكراد)، العالم تغيّر والحزب أيضاً".
وأعلن النائب عن "الشعب الجمهوري" في ولاية إسطنبول، بيناز توبراك، بأن "الحزب يساند بدء التعليم باللغة الأم، والتي تعتبر من أكثر القضايا الخلافية التي تطالب بها الحركة القومية، خصوصاً أن قائد عملية التسوية، أي حزب العدالة والتنمية، لم يحسم رأيه في الأمر بعد". بل دعا توبراك إلى تغيير تعريف المواطن في الدستور الجديد الذي كان مبنياً على أساس الانتماء إلى العرق التركي.
لم يمرّ تجديد انتخاب كلجدار أوغلو بما يمثله من عزم على التغيير بالسهولة التي مرت بها الانتخابات الأولى عام 2010، ولا يبدو أن نجاحه سيكون سهلاً في ظل الاعتراضات الكبيرة التي يواجهها، إلا أن أكبر أحزاب المعارضة العلمانية، كما يبدو، ما زال عالقاً في مرحلة ردّ الفعل على "العدالة والتنمية"، بدلاً من طرح مشروع بديل يحاول من خلاله "الشعب الجمهوري" تبني أطروحات ورؤى "العدالة والتنمية"، التي حققت له الأغلبية الانتخابية، مما يثير الكثير من الشكوك حول نجاح عملية التغيير. كما أن أي مناصر لـ"العدالة والتنمية" لن ينتقل من الحزب الذي يمثله ويحقق له الرخاء، إلى حزب سبق أن عانى كثيراً تحت حكمه.