المزيجُ المدهش بين ما هو مجرّد تموجاتٍ لونية وبين شخوصٍ ومنازلَ وقصص وأساطير فارسية، لا تكاد تظهر بين هذه التموجات على قماش لوحة واحدة فقط بل وعدد من اللوحات؛ لا يذكّر كما هو متوقع بما درج نقاد الفن البصري على تسميته بالتجريد التعبيري، بل على مزيج يبحث عن تسمية، أو على رحلة لانهاية لها.
هذا المزيج من ابتكار الفنانة الإيرانية المقيمة في كندا نورية مظفري (1960)، والمكان الذي تعرض فيه الآن بدءاً من الرابع وحتى الحادي والعشرين من هذا الشهر هو صالة دار الفنون في الكويت، الصالة التي لا تزال جزءاً من مبنى بيت عربي تقليدي من الطراز ذاته الذي عرفته مناطق شمالي الجزيرة العربية منذ أقدم العصور. هل هناك اتساقٌ بين قِدَم مكان العرض، وقدم الموروث الذي تستلهمه مظفري، وكلاهما دال على تمازج حضارتين شرقيتين فيما هما تطلان من شرفة تقاليدهما، وخاصة بطوابعها شبه الأسطورية، على مشهد العصر الحديث؟ ربما نعم، وربما لا، ولكن ما يبدو مصادفة قد يخفي أحياناً مسارات منطقية تدل على أن عناية ما توجه الأحداث والناس والمصائر.
ومع ذلك يظل للإنسان، والفنان بخاصة، هامش يسميه قراره وخياره. وهو ما يعنينا هنا. هذه الفنانة تختار، على عكس عادة فناني التجريد التعبيري، أسماء شعرية لمعارضها، فهذا معرض عنوانه "جمال الصباح" وذاك عنوانه "مسار الزمن" وبينهما معرض تحت عنوان " ذكريات حادة".. وهكذا. في هذه الأعمال الفنية تفكيك واختزال للمظاهر الطبيعية، وإبداع فن بأشكال أساسها عدم التمثيل والتشخيص، تعتمد التعبير العفوي. وصولا إلى أسلوب شخصي يتضح باستخدام وسائط متنوعة و"مشاهد" من مرويات وقصص لا سبيل إلى الشك في انتمائها إلى دائرة الحضارة الفارسية. فلهذه الحضارة طوابعها التي لا يخطئها النظر سواء في مرحلتها الإسلامية أو في مراحلها الأقدم.
البحث عن التسمية ربما هو الصفة الأكثر ملائمة لهذا المسار الفني الذي بدأته هذه الفنانة في كلية الزهراء للفنون في طهران، مروراً بدراسة فن الحلي والتصاميم الزخرفية في فانكوفر الكندية. وهذا ما يوحي به، ليس أسلوبها التعبيري التجريدي المميز فقط، بل ووعيها هي بما تجربه وتحاول قوله أو التعبير عنه. فبعد تعرّفها، وهذا أمر مؤكد، على أعمال أشهر فناني الأسلوب التجريدي، من أمثال النحات برانكوزي، والتشكيليين من أمثال موندريان، وكاندنسكي، وبولوك، بل وتقديمها لمحاضرات عنهم، تجد نفسها أمام ما تصفه بصدمة ثقافية تصفع الإنسان حين يعود إلى وطنه بعد طول انقطاع، وأمام شلال من الذكريات وروائح ومذاق الأمكنة يطغى على حواسها، ومنذ تلك اللحظة يتحوّل كل هذا حتى بعد المغادرة إلى منبع الهام لا ينضب، وأمواج تواصل دفعها باتجاهات عديدة.
من هنا، وبتأثير تجربة عودتها هي المهاجرة أو المنفية إلى وطنها الأم، واصطدام ثقافتها الحديثة بثقافة حضارة أمتها العريقة، تنامت لديها محاولة التعبير عن عواطفها ومدركاتها "ببساطة الشكل وتناغم الألوان وتناقض الضوء والعتمة" كما تقول. وكأنها تود ابتكار هوية لا هي من نمط تقليدي موروث، ولا هي من نمط هوية بلا ملامح مميزة كما تطالب تيارات ما بعد- الحداثة المعولمة. فتصبح لوحاتُها رموزاً لتأويلها هي للحياة، لحبّها لما هو طبيعي وحقيقي. والمشاهِد للوحاتها يرى بالفعل ما تسميه "انفتاحاً" على فضاء ممكن قد يبدو غامضاً يتعذر الوصول فيه إلى نهاية ما.
ولكن مثل هذا التركيب، بين تجريد لوني، ولمحات من شخوص وأماكن ومبان تبدو ضئيلة أو ضائعة وسط غابات لونية، لا تفوت الإنسان الواعي، سواء كان يرى بشراً أو أشياء أو مشهداً، دلالته على حقيقة أن لا انفصال في هذا العالم بين كل هذه المفردات.
الشكل في هذه الأعمال لديها مهم كما قالت ذات يوم، إلا أنه كما تضيف لا يمثل إلا إحساساً عاماً بالموضوع، أي أن هناك شيئاً ما وراء المرئي بتعبير جون بيرجر. لهذا السبب كما نعتقد يولد التجريد أو يضاف إلى متخيل واقعي أحياناً، لاكتشاف المزيد، لاكتشاف ما يتجاوز قيود الشكل.
عن هذا تقول الفنانة "إنني أجاهد لأظل مخلصة لهذه المعرفة"، وتقصد معرفة أن شيئاً ما يتراءى وراء المرئي، فتصغي إلى الموسيقى الإيرانية الكلاسيكية، وتقرأ الشعر، بحثاً عن إلهام أو بحثاً عما يصلها بغير المرئي. وتترك جسدها وفكرها، كما تقول حرفياً "يذوبان في الموسيقى، ويقودان روحها إلى أماكن هي بحاجة إلى أن تذهب إليها.. وحين تظهر الانطباعات وأنساق الأشكال على قماش اللوحة تتشكل مرآة نحو خطوتها التالية".
الجميل في هذا الوعي أن صاحبته ترى في الفن رحلة لا نهاية لها، وهذا أمر طبيعي ما دامت تجد في الصورة انفتاحاً على فضاء ممكن دائماً.