انفجار الدولة القُطْريّة
كشفت حقبة ما بعد الثورات العربية عمق الأزمة التي تعانيها الدولة القُطْرية العربية، وحجم التناقضات الكامنة داخلها، والتي انفجرت مع انطلاقة هذه الثورات. لكن انكشاف الأزمة المتعلقة ببُنْيَة هذه الدولة، وشرعيتها، اتّضح قبل الثورات، في دولٍ، مثل العراق والسودان واليمن ولبنان، وتواصل بعد الثورات، ليشمل دولاً مثل سورية وليبيا، وهذه الدول بات ممكناً تصنيفها في عداد الدول الفاشلة.
الحديث عن نشأة الدولة في العالم العربي مهم لفهم أزمة الشرعية فيها، فهي لم تنشأ كدولة أمة تمثّلها، وتعبّر عنها، كما في نموذج دولة الأمة الأوروبي الحديث، وإنما تمثّل جزءاً من أمة عربيةٍ لم تتمكن من تقرير مصيرها وإنشاء كيان سياسي يعبّر عنها (لذلك نسميها قُطرية)، وهكذا كان لزاماً على الدولة القُطرية هذه أن تخلق هوية وطنية خاصة، وشعوراً وطنياً جامعاً لمواطنيها، أي أن توجِد الجماعة الوطنية (الأمة) التي تعبّر عنها.
فشلت الدولة القُطرية في إيجاد هويةٍ وطنيةٍ خاصة، وقامت بعض الدول العربية بتعميم هوياتٍ ذات طابع مذهبي أو قَبَلي ضيق على مجمل المواطنين، ما دفع المكوّنات الاجتماعية من خارج هذه الهويات المفروضة إلى مقاومتها. كذلك حاولت دول عربية أخرى استخدام هويات "مَتْحَفِيَّة" منقرضة، مثل الفرعونية والبابلية والسريانية والفينيقية، لتعزيز شرعيتها، وإقامة هوية خاصة لأبناء هذه الدول، تميّزهم عن غيرهم، لكن هذه الهويات لم تنجح، لأنها لا تمثّل شيئاً في واقع أبناء هذه الدول اليوم، فهم لا يتحدثون باللغة الفرعونية، ولا الفينيقية، ولا يستخدمون رموزها في واقعهم، ولا تعني هذه الامتدادات التاريخية في عصرنا أكثر من التعاطي مع آثار سياحية، مثل الأهرامات.
كان لأزمة الهوية في الدولة القُطرية دور في تعزيز هويات الجماعات الأهلية (القبيلة والطائفة)، في غياب جماعة وطنية، تضمّ المواطنين تحت مظلّتها، ولم يُصنع انتماء وطني في هذه الدول يفوق انتماء الفرد لجماعته الأهلية، وغابت المؤسسات التي يشعر المواطنون بأنهم يشتركون في ملكيتها، وأن واجبهم المحافظة عليها، والعمل، من خلالها، على تحسين واقعهم، وتحقيق مصالحهم المشتركة.
في العقود الثلاثة الأخيرة، حصلت تحولات في بُنْيَة الدولة القُطرية، فاقمت أزمتها، أهمها تقلّص الفروق بين الجمهوريات والملكيات العربية، والتشابه البُنيوي الكبير بينهما، عبر تحوّل الجمهوريات العربية، من حكم الحزب القائد إلى حكم العائلة المالكة، ونشوء طبقة حاكمة جديدة في الجمهوريات، اختزلت الدولة بها، محورها الأسرة الحاكمة، المتحالفة مع القوى الأمنية، ومجموعة من التجار والمنتفعين. ضرب هذا التحوّل أساس الشرعية التي تقوم عليها الجمهورية، فالمفترض أن الرئيس في الجمهورية، وإن كان مستبداً، يستمد شرعيته من تمثيل الإرادة العامة، أي أنه يزعم تمثيل إرادة الشعب، ويحكم باسمه، ولا يحكم باسم الحق الإلهي، أو باسم السلالة.
أنتج التحوّل باتجاه حكم العائلة في الجمهوريات العربية ظاهرتين، تبدّتا في سلوك الأنظمة العربية، تمثّلت الأولى في غياب الشعارات الأيديولوجية الكبرى، مع تنحّي الأحزاب العقائدية لصالح عائلات الرؤساء، فلم يعد الشعار الأيديولوجي يستخدم في التحشيد، وتعبئة الجماهير، لصالح مشروع سياسي عربي واضح المعالم، كما في الخمسينيات والستينيات، ولم يعد يستخدم حتى في تبرير سياسات الأنظمة العربية. فبعدما تخلت هذه الأنظمة عن القضية الفلسطينية، واعتبرتها قضية الفلسطينيين لا قضية العرب، صار من غير الممكن استخدام شعار فلسطين لتبرير السياسات الداخلية للأنظمة. ولأن هذه الأنظمة بلا مشروع حقيقي، وتتمتع معظمها برعاية غربية، لم تستطع استخدام قضايا، مثل مجابهة الاستعمار وتحقيق النهوض العربي لتبرير سياساتها، واكتفت بالحديث عن الأمن والاستقرار الذي توفره لمواطنيها، فهو يمثّل ما تبقّى لها لتتحدث عنه.
الظاهرة الثانية تحويل الدولة إلى إقطاعية خاصة بالأسرة الحاكمة والمقرّبين منها، وانتشار الفساد ونهب المال العام، وقد حصل هذا عبر ضرب القطاع العام الإنتاجي لصالح "الخصخصة" واقتصاد السوق الذي تبيّن أنه غطاء لتحويل كل الحيِّز العام إلى مزرعةٍ خاصة بالنخبة الحاكمة، والمنتفعين منها (هم غالباً أولاد الرئيس وأصهاره وأقرباؤه)، فجمعت العائلات الحاكمة بين الحكم والتجارة، وكرّس المنتفعون سياسات الاحتكار الاقتصادي، وإنشاء حالة اقتصادية إقطاعية، تناقض فكرة اقتصاد السوق القائمة على التنافس الحر، بما يعني أن هذه الأنظمة تخلّصت من السياسات الاشتراكية، من دون أن تتمكن من إنشاء حالة اقتصادية رأسمالية، كما تدَّعي.
أسهم هذا كله في انهيار الدولة العربية، وظهور ما كان مخفيّاً خلف ستار السطوة الأمنية للسلطة، فبرز الصراع الطائفي والعشائري في الدول العربية، نتيجة غياب هوية وطنية ومؤسسات تجمع أبناء هذه الدول بوصفهم مواطنين، ودأبت الأنظمة الاستبدادية العربية على التهديد بالفوضى، في حال تهديد وجودها. وهي، هنا، تستغل اختزالها الدولة، وتحكي، في الوقت نفسه، قصة فشلها في بناء الدولة والأمة.
إن تجاوز أزمة الدولة القُطرية يتطلّب بناء شرعيتها على أسس جديدة، تكون فيها هوية وطنية جامعة، محورها الهوية العربية، والتي لا تقدم اليوم نقيضاً لهوية الدولة القُطرية، بل كعامل يعزز تماسك مجتمعها في مواجهة خطر الصراعات الأهلية. كذلك، فإن تعزيز مفاهيم المواطَنة والمشاركة الجماعية في بناء المؤسسات، يؤسس لشرعية جديدة غير التي قامت على احتكار النخبة الحاكمة للدولة وما فيها.