تنقسم مواقف القوى السياسية والمدنية في الجزائر، في الآونة الأخيرة، بخصوص المسودة النهائية للدستور، الذي يطرح للاستفتاء الشعبي في الفاتح من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. ففيما تعلن القوى الموالية للسلطة دعمها للمسودة دون أدنى تردد، تعلن قوى أخرى رفضها لها، وترجئ أحزاب ومكونات تحديد موقفها لمزيد من التمحيص، بينما تتجاهل قوى "الكتلة الديمقراطية" المسار برمته، وتعتبره سطوا جديدا على الإرادة الشعبية.
ولم تخالف أحزاب "الموالاة" ما كان منتظراً بعدما أعلنت دعمها لمسودة الدستور بما حملت، مبدية استعدادها الكامل لتنشيط الحملة الانتخابية لحث الناخبين على التوجه إلى صناديق الاقتراع، ومثلت مواقف الكتل النيابية التابعة لهذه الأحزاب عند مصادقتها بالإجماع على المسودة في غرفتي البرلمان، إعلانا رسميا عن تأييد المسودة.
وحث الأمين العام لحزب "جبهة التحرير الوطني"، أبو الفضل بعجي، نواب حزبه وقياداته على المساهمة الفعالة في المناقشة والدعوة لتأييد التعديل الدستوري. وقال في آخر اجتماع لنواب وقيادة الحزب "إنني أعول عليكم في تنشيط حملة الاستفتاء على مشروع التعديل الدستوري في دوائركم الانتخابية، ولإبراز دور الحزب وإسهاماته في هذا الجهد الوطني المرتقب". ووصف بعجي المسودة بأنها ستتيح "انتقالا نوعيا في النظام السياسي، ينبثق عنه ميلاد جمهورية جديدة، يسود فيها الحق والعدل والقانون".
حزب "التجمع الوطني الديمقراطي" سبق "الجبهة" في إعلان موقفه المؤيد للدستور، حتى قبل أن يتم الكشف عن مضمون المسودة، موقف سريالي لا يوضح فحسب طبيعة التبعية التامة للحزب ومواقفه إزاء خيارات السلطة، بل يوضح أيضا استعداد الحزب للعب أي دور مطلوب منه.
وفي السياق نفسه، أعلنت "جبهة المستقبل" عن دعمها المسودة وصوت نوابها لصالح التعديل الدستوري في البرلمان، وتصف بياناتها الدستور المعدل بأنه "يتضمن العديد من النقاط التي تساعد على بناء جزائر جديدة التي يحلم بها الجزائريون". كما صوت مجلس شورى "حركة الإصلاح الوطني" لصالح مسودة الدستور، فيما أعلنت أحزاب "تجمع أمل الجزائر" و"الحركة الشعبية" وتنظيمات موالية كاتحاد العمال واتحاد الفلاحين دعمها للمسودة.
في مقابل ذلك اختارت القوى السياسية والمدنية المشاركة في تكتل "القوى الوطنية للإصلاح" خطا تكتيكيا مختلفاً، بعدما أرجأت تحديد موقف نهائي من مسودة الدستور، رغم دعوتها إلى المشاركة الواسعة في النقاش والتصويت على الدستور الجديد.
وارتأت "القوى الوطنية للإصلاح" التريث لحين إجراء تقييم ودراسة المسودة النهائية لتعديل الدستور، وتقدير مدى استجابة مضمونها للمقترحات التي قدمها التكتل إلى الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، وفق بيان صادر عنها الأربعاء.
ومن أبرز مكونات التكتل أحزاب "حركة البناء الوطني" (إسلامي) و"جبهة المستقبل" (قومي) و"الفجر الجديد" (محافظ) و"الحكم الراشد" وحزب "الوطنيين الأحرار"، إضافة إلى قوى قيد التأسيس كـ"التحالف الوطني للتغيير"، وعلي جدي ممثلا عن القيادات التاريخية في "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" المحظورة، إضافة إلى نقابة القضاة وأرباب العمل والتجار والحرفيين، والمجلس الوطني للصحافيين.
تمرد في كتلة 12/12
إزاء ذلك، حسمت قوى سياسية أخرى موقفها وأعلنت رفضها لمضمون المسودة، بينها قوى سياسية ومدنية من داخل الكتلة التي شاركت في المسار الانتخابي، وأكدت هذه القوى أن دعمها لانتخابات في 12 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، والتي رفضها جزء من الحراك الشعبي، لا يعني منحها السلطة صكا على بياض.
وتأتي على رأس هذه القوى أحزاب قيد التأسيس لكنها تتمتع بحضور وتأثير لافتين في الطبقة الوسطى كحزب "السيادة الشعبية" وحركة "عزم" الذين تبدي قياداتهما مواقف مناوئة لهذه المسودة.
وفي العاشر من سبتمبر/ أيلول الجاري نشرت حركة "زم" بيانا أكدت فيه "رفضها النهج المفضي إلى المشروع التمهيدي للدستور، واعتبرته نهجا خاطئا غداة طرحه". ونفت تقديمها أي مقترحات بشأن وثيقة تعديل الدستور إلى أيّ جهة كانت.
كما وصف رئيس حزب "حركة المجتمع الديمقراطي"، خرشي النوي، مسودة الدستور الجديد بالخطيرة، لتضمنها بنودا ومواد تناقض القيم المجتمعية، وتوقع رفضا شعبيا كبيرا لهذا الدستور.
يضاف إلى هذه القوى "جبهة العدالة والتنمية" التي يقودها عبد الله جاب الله، والتي كانت تعتبر منذ الانتخابات الرئاسية الماضية أن الخيار والمسار الذي كانت تفرضه السلطة حينها سيؤدي إلى فرض مشروع سياسي كامل، وصولا إلى مسودة الدستور التي تعتبر أنها تكرس الهيمنة. وقاطعت الحركة مشاورات تعديل الدستور، كما قاطع نوابها جلسة التصويت على المسودة في البرلمان.
وفي السياق نفسه لم تعلن بعد "حركة مجتمع السلم"، كبرى الأحزاب الإسلامية في البلاد، موقفا محددا من المسودة، وأرجأت ذلك إلى حين اجتماع مجلس شوراها.
وفي مقابل هذه المواقف كلها، تظهر "الكتلة الديمقراطية" التي تضم قوى تقدمية غير معنية تماما بمسار تعديل الدستور منذ بدايته، إذ قاطعت المشاورات بشأنه وقاطعت كتلها النيابية جلسة التصويت. وتطالب قوى الكتلة التي تضم "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" وحزب "العمال اليساري" و"جبهة القوى الاشتراكية" وحزب "العمال الاشتراكي" و"الحركة الديمقراطية الاجتماعية" و"رابطة حقوق الإنسان" بعقد مؤتمر وطني يفضي إلى توافقات حول الدستور يتيح تجسيد انتقال ديمقراطي مستقل عن أي وصاية للنظام، وتتجه مواقف هذه القوى إلى الدعوة لمقاطعة الاستفتاء.
وبخلاف الأريحية التي كانت تجدها السلطة الحاكمة في الجزائر في تمرير مشاريع تعديلات دستورية أو خيارات سياسية أخرى خلال العقود السابقة بفعل تحالفات سياسية معقدة ومتناقضة، فإنها تواجه اليوم صعوبة كبيرة في توفير الدعم السياسي الكافي لمشروع مسودة الدستور.
ويأتي ذلك بعد تنامي الوعي السياسي منذ اندلاع الحراك الشعبي في فبراير/ شباط 2019، في ظل بروز مؤشرات لعودة محتملة لمظاهرات الحراك قبل الاستفتاء، وهو ما يفرض التوجه إلى طلب دعم من المجتمع المدني الذي سعت السلطة الحاكمة قبل فترة إلى إعادة هندسته.
وكان مستشار رئيس الجمهورية المكلف بالمجتمع المدني نزيه برمضان قد أعلن قبل أيام أنه تم اعتماد ستة آلاف جمعية جديدة في ظرف وجيز، كما تظهر بعض التحركات توجه السلطة لطلب دعم المؤسسة الدينية التقليدية (الزوايا) وبعض المؤسسات الاجتماعية العرفية، على غرار الدعوة التي وجهها أمين العقال بالأهقار (كبير أعيان التوارق) أحمد إيدابير للمواطنين بالمشاركة بقوة في الاستفتاء على الدستور.