06 نوفمبر 2024
انقلاب عسكري في العراق!
مع صعود تيارات الإسلام السياسي أواخر ستينيات القرن الماضي، ومطلع سبعينياته، نتيجة الهزيمة العربية في حرب يونيو/ حزيران 1967، وانحسار المد القومي العربي، ظهرت في الغرب نظرياتٌ حاولت، من مدخل ثقافي - أنثربولوجي، تفسير ظاهرة عودة الدين إلى تأدية دور محوري في الحياة الاجتماعية والسياسية العربية، بعد أن سادت في العقد الذي سبقه نظريات التحديث (modernization theories) التي قالت بتجاوز المجتمعات العربية - الإسلامية عتبة التقليد والتراث، وأنماط الإنتاج القديمة، ودخولها عصر الحداثة، مع انتشار نظم التعليم الحديثة، وتوسع المدن، وتطور قطاع النقل، وظهور قاعدةٍ صناعية، وانتشار المكننة الزراعية.
كانت إحدى هذه النظريات تقوم على فكرة غريبة، وساذجة في الوقت نفسه، مفادها بأن مسار التطور في التاريخ العربي - الإسلامي يأخذ نمطاً دائريا أو حلقيًا (circular pattern) بمعنى أنه يكرّر نفسه، وينتهي دائما إلى حيث بدأ، فكلما سادت النزعات المادية في المجتمع، ظهرت من داخله قوى تقليدية تحاول إعادته إلى جذوره وأصوله. وعلى الرغم من أن في هذا التفسير شيئا من الانتقائية، وحتى العنصرية، التي تميز أكثر "أدب الاستشراق"، في نظرته إلى الحالة العربية الإسلامية، لأنه يعني أن إمكانية التقدم والتطور معدومةٌ أمامها، فقد أخذ به علماء اجتماع وساسة ومؤرخون وأنثروبولوجيون غربيون عديدون، خصوصا بعد أحداث "11سبتمبر" في 2001، حيث ذهب عدد منهم، مثل وليم زارتمان، وإدوارد شيرلي، وحتى فرانسيس فوكوياما، إلى القول إن ما جرى جاء نتيجة اصطدام الفكر الإسلامي بالحداثة الغربية، وعدم قدرته على تجاوز نقطةٍ في الماضي، ظلت تشده إليها بقوة، وتمنعه من السير بعيدا عنها.
جالت هذه الفكرة بخاطري، وأنا أقرأ تقريرا صحافيًا عن الفوضى السياسية التي أعقبت الانتخابات البرلمانية العراقية، وسعي الخاسرين إلى رفضها والتشكيك بنتائجها، وأن أطرافا باتت تنظر إلى الجيش باعتباره المخلص الذي يمكن، بتدخله، وضع حدٍّ لتردي الوضع الأمني، وتدهور الأحوال المعيشية والخدمية، وفساد الطبقة السياسية وفشلها، وسيرها وراء مصالحها الخاصة، وتبعيتها لمرجعياتٍ خارجية، فضلاً عن مماحكات النخب، وانشغالها بالمؤامرات والدسائس، وعودة اللغة الطائفية وتنامي التدخلات الأجنبية، الإيرانية منها والأميركية. ويسوق بعضهم شواهد على أرجحية هذا السيناريو، واستعداد الشارع العراقي للقبول به، من قبيل تذمر الجيش من الوضع العام في البلد، وفقدان ثقته بالحكومة ومؤسسات الدولة، بدليل تدخله للإشراف على حل المشكلات والأزمات داخل المدن، كتأهيل الطرقات، ورفع النفايات وإيصال مياه الشرب وفضّ النزاعات العشائرية، وغير ذلك من أعمال الوزارات والمؤسسات المدنية.
حتى وقت قريب، كان الاعتقاد السائد أن حديث الانقلابات صار جزءا من تاريخ العراق، بعدما جناه حكم العسكر من كوارث على مدى العقود الستة الماضية، أي منذ انقلاب الجيش على النظام الملكي عام 1958 وإعلان الجمهورية. إذ أدخلت الحكومات العسكرية المتعاقبة، من حكومة اللواء عبد الكريم قاسم وصولا إلى المهيب صدام حسين، مرورا بالأخوين عارف والرئيس أحمد حسن البكر، العراق في سلسةٍ من الكوارث والحروب والتصفيات الداخلية التي قادت، في النهاية، إلى عودة الاحتلال الأجنبي. وأن هذه التجربة لن تعود، نظرا للأثمان الباهظة التي ترتبت عليها.
لكن طروحات عودة الجيش إلى الإمساك بزمام السلطة تجعلنا نعيد التفكير في كل هذا الكلام، وتضعنا أمام السؤال نفسه الذي طرحه المستشرقون الآنف ذكرهم: هل نواجه نمطًا دائريًا من التطور في الحياة السياسية العربية، يمنعنا من المضي قدمًا، لأن النخب العربية، ببنيتها الفكرية القائمة، ما زالت غير قادرة على استيعاب فكرة تداول السلطة سلميًا، وما زالت تفكر بها بعقلية الأعطيات والإقطاعات والفيء والغنائم؟ هل يعيدنا ما يجري الآن في العراق إلى الأجواء التي كانت سائدةً في النصف الأول من القرن العشرين؟ هل نحن أمام نمط متكرّر (recurring) قوامه: احتلال أجنبي، يعقبه حكم مدني، تسيطر فيه طبقة سياسية فاسدة، ينبري الجيش باعتباره منقذا، أو تستقوي به فئةٌ على أخرى، تتكرّس سلطة عسكرية أحادية، تستعين نخبٌ سياسية مدنية بالخارج لإطاحتها، لنعود إلى الاحتلال الأجنبي، وهكذا دواليك؟ هل هناك إمكانية للخروج من هذه الحلقة المدمرة؟ هذا سؤال برسم النخب العراقية، وعلى عاتقها تقع مسؤولية إثبات نظرية التطور الدائري لحياتنا السياسية العربية، أو دحضها.
كانت إحدى هذه النظريات تقوم على فكرة غريبة، وساذجة في الوقت نفسه، مفادها بأن مسار التطور في التاريخ العربي - الإسلامي يأخذ نمطاً دائريا أو حلقيًا (circular pattern) بمعنى أنه يكرّر نفسه، وينتهي دائما إلى حيث بدأ، فكلما سادت النزعات المادية في المجتمع، ظهرت من داخله قوى تقليدية تحاول إعادته إلى جذوره وأصوله. وعلى الرغم من أن في هذا التفسير شيئا من الانتقائية، وحتى العنصرية، التي تميز أكثر "أدب الاستشراق"، في نظرته إلى الحالة العربية الإسلامية، لأنه يعني أن إمكانية التقدم والتطور معدومةٌ أمامها، فقد أخذ به علماء اجتماع وساسة ومؤرخون وأنثروبولوجيون غربيون عديدون، خصوصا بعد أحداث "11سبتمبر" في 2001، حيث ذهب عدد منهم، مثل وليم زارتمان، وإدوارد شيرلي، وحتى فرانسيس فوكوياما، إلى القول إن ما جرى جاء نتيجة اصطدام الفكر الإسلامي بالحداثة الغربية، وعدم قدرته على تجاوز نقطةٍ في الماضي، ظلت تشده إليها بقوة، وتمنعه من السير بعيدا عنها.
جالت هذه الفكرة بخاطري، وأنا أقرأ تقريرا صحافيًا عن الفوضى السياسية التي أعقبت الانتخابات البرلمانية العراقية، وسعي الخاسرين إلى رفضها والتشكيك بنتائجها، وأن أطرافا باتت تنظر إلى الجيش باعتباره المخلص الذي يمكن، بتدخله، وضع حدٍّ لتردي الوضع الأمني، وتدهور الأحوال المعيشية والخدمية، وفساد الطبقة السياسية وفشلها، وسيرها وراء مصالحها الخاصة، وتبعيتها لمرجعياتٍ خارجية، فضلاً عن مماحكات النخب، وانشغالها بالمؤامرات والدسائس، وعودة اللغة الطائفية وتنامي التدخلات الأجنبية، الإيرانية منها والأميركية. ويسوق بعضهم شواهد على أرجحية هذا السيناريو، واستعداد الشارع العراقي للقبول به، من قبيل تذمر الجيش من الوضع العام في البلد، وفقدان ثقته بالحكومة ومؤسسات الدولة، بدليل تدخله للإشراف على حل المشكلات والأزمات داخل المدن، كتأهيل الطرقات، ورفع النفايات وإيصال مياه الشرب وفضّ النزاعات العشائرية، وغير ذلك من أعمال الوزارات والمؤسسات المدنية.
حتى وقت قريب، كان الاعتقاد السائد أن حديث الانقلابات صار جزءا من تاريخ العراق، بعدما جناه حكم العسكر من كوارث على مدى العقود الستة الماضية، أي منذ انقلاب الجيش على النظام الملكي عام 1958 وإعلان الجمهورية. إذ أدخلت الحكومات العسكرية المتعاقبة، من حكومة اللواء عبد الكريم قاسم وصولا إلى المهيب صدام حسين، مرورا بالأخوين عارف والرئيس أحمد حسن البكر، العراق في سلسةٍ من الكوارث والحروب والتصفيات الداخلية التي قادت، في النهاية، إلى عودة الاحتلال الأجنبي. وأن هذه التجربة لن تعود، نظرا للأثمان الباهظة التي ترتبت عليها.
لكن طروحات عودة الجيش إلى الإمساك بزمام السلطة تجعلنا نعيد التفكير في كل هذا الكلام، وتضعنا أمام السؤال نفسه الذي طرحه المستشرقون الآنف ذكرهم: هل نواجه نمطًا دائريًا من التطور في الحياة السياسية العربية، يمنعنا من المضي قدمًا، لأن النخب العربية، ببنيتها الفكرية القائمة، ما زالت غير قادرة على استيعاب فكرة تداول السلطة سلميًا، وما زالت تفكر بها بعقلية الأعطيات والإقطاعات والفيء والغنائم؟ هل يعيدنا ما يجري الآن في العراق إلى الأجواء التي كانت سائدةً في النصف الأول من القرن العشرين؟ هل نحن أمام نمط متكرّر (recurring) قوامه: احتلال أجنبي، يعقبه حكم مدني، تسيطر فيه طبقة سياسية فاسدة، ينبري الجيش باعتباره منقذا، أو تستقوي به فئةٌ على أخرى، تتكرّس سلطة عسكرية أحادية، تستعين نخبٌ سياسية مدنية بالخارج لإطاحتها، لنعود إلى الاحتلال الأجنبي، وهكذا دواليك؟ هل هناك إمكانية للخروج من هذه الحلقة المدمرة؟ هذا سؤال برسم النخب العراقية، وعلى عاتقها تقع مسؤولية إثبات نظرية التطور الدائري لحياتنا السياسية العربية، أو دحضها.