13 فبراير 2022
انكشارية "عربية" جديدة
حدّثني زميل سوداني عن تبرّع الجنرال السوداني، محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي، نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي في السودان، قائد قوات الدعم السريع، بمليار دولار للخزينة العامة للدولة. وأذكر أنه بعد ثورة يناير، انتشرت أخبارٌ أن الجيش المصري أقرض البنك المركزي مبلغاً مماثلاً. تثير مثل هذه الأخبار تساؤلات بشأن حدود العلاقة بين العام والخاص في علاقة الجيوش بالسياسة في العالم العربي، حيث لم يعد هناك مجال للشك في أن عدم تأطير هذه العلاقة يعد من أهم معوقات الانتقال الديمقراطي. وتخبرنا تجربة الربيع العربي أنه كانت للمؤسسة العسكرية اليد العليا في رسم مسارات الانتقال السياسي، في مرحلة ما بعد الانتفاضات.
وإذا كان ثمّة تفاوتٌ في مواقف هذه المؤسسة وأدائها من بلد إلى آخر، إلا أنها كانت، ولا تزال، صاحبة دور حاسم في تحديد مآلات الثورات والانتفاضات العربية، فمن مصر إلى الجزائر، وبينهما ليبيا والسودان، ومعهما اليمن وسورية، وقبلهما العراق وموريتانيا، لعب الجنرالات، ولا يزالون، دوراً مهماً ليس في عرقلة آمال الانتقال الديمقراطي ووأدها فحسب، وإنما أيضا في تحويل الجيوش إلى مؤسساتٍ وإقطاعياتٍ خاصة، وفي أحيان أخرى إلى مليشيات تحمي النظام وعائلته وحاشيته. وهو ما ينفي عنها صفة الجيوش النظامية بالمعنى الكلاسيكي، فالأخيرة، بحسب عزمي بشارة في كتابه المهمّ "الجيش والسياسة.. إشكاليات نظرية ونماذج عربية"، تشير إلى "القوات المسلحة المنظمة في كتائب وفرق وفيالق أو غيرها من التشكيلات المدربة على الطاعة بموجب تراتبية واضحة في تسلسل الأوامر من الجندي وحتى قيادة الجيش، التي تقوم لغرض الدفاع عن دولة، وربما تتدخل أيضا للحفاظ على استقرارها الداخلي". وهو تعريف واضح ودقيق، يستبعد المليشيات المسلحة أو الجيوش الخاصة من نطاقه، ويدفع إلى التساؤل بشأن كيفية تصنيف الجيوش العربية، وهل هي جيوش نظامية أم مجرد مليشيات وفرق عسكرية تحركها دوافع أخرى، غير الحفاظ على الدولة وحماية أمنها؟
وإذا كانت الجيوش النظامية العربية قد لعبت دوراً مهماً في عملية بناء دولة ما بعد الاستقلال، أو هكذا ادّعى قادتها، فقد تحوّلت، في ثقافتها ومنظومة ولائها، خلال العقود الأخيرة، إلى ما يشبه الفرق الانكشارية التي كانت تحمي السلطان العثماني، وتعمل على إحكام سيطرته داخليا، ومد نفوذه خارجياً. وللمفارقة، كانت هذه الفرق الانكشارية تمثل عند ظهورها، بحسب بشارة، "الجيش النظامي الأول في التاريخ"، وذلك تمييزاً لها عن "جيوش الغزاة والفاتحين السابقين" وعن نظام "السباهية" أو "الإقطاع العسكري" العثماني.
خذ مثلاً السودان، فمنذ آخر استيلاء للجيش على السلطة في انقلاب 1989، قام الجنرال عمر البشير بعملية إعادة هيكلة للمؤسسة العسكرية، ليس فقط على مستوى البنية، وإنما أيضا الولاء. ففضلاً عن إنشائه عدة فرق ومليشيات عسكرية من خارج بنية الجيش النظامي، مثل فرق الجنجاويد (سُميت لاحقاً بقوات الدعم السريع) التي أنشأها ويقودها الفريق حميدتي، ولعبت دوراً مهماً في إخماد التمرد في إقليم دارفور. وكذلك قوات الدفاع الشعبي التي تم تشكيلها من مواطنين سودانيين بعد انقلاب البشير، وتحولت بعد ذلك إلى قوات احتياط تابعة للجيش السوداني. وخذ أيضا ما فعله حافظ الأسد، ومن بعده ابنه بشار، بالجيش السوري الذي تحول إلى جيش طائفي بالمعنى السياسي، وليس فقط المذهبي، يقوم على حماية عائلة الأسد وحاشيته وأقاربه. ناهيك بالمليشيات المختلفة التي تساعد النظام، منذ بداية الانتفاضة الشعبية ضده. وهو لا يختلف كثيراً عما فعله الرئيس اليمني الراحل، علي عبد الله صالح، بالجيش اليمني الذي تحول، خلال العقود الثلاثة الماضية، إلى ما يشبه المليشيات القبلية والعائلية والطائفية التي كان يقودها صالح وأولاده وأقاربه.
في بعض هذه الحالات، أصبحت المليشيات والفرق المسلحة أقوى من الجيوش النظامية، وأقوى من الدولة، ومن نظامها السياسي، فتحولت إلى "انكشارية" جديدة، تسعى إلى فرض سيطرتها على الدولة والنظام والمجتمع. ويتمتع قادة هذه الانكشارية الجديدة بمصالح مادية، ومزايا اجتماعية، كما لو كانت طبقةً إقطاعيةً تمتلك الأرض ومن عليها.
وإذا كان ثمّة تفاوتٌ في مواقف هذه المؤسسة وأدائها من بلد إلى آخر، إلا أنها كانت، ولا تزال، صاحبة دور حاسم في تحديد مآلات الثورات والانتفاضات العربية، فمن مصر إلى الجزائر، وبينهما ليبيا والسودان، ومعهما اليمن وسورية، وقبلهما العراق وموريتانيا، لعب الجنرالات، ولا يزالون، دوراً مهماً ليس في عرقلة آمال الانتقال الديمقراطي ووأدها فحسب، وإنما أيضا في تحويل الجيوش إلى مؤسساتٍ وإقطاعياتٍ خاصة، وفي أحيان أخرى إلى مليشيات تحمي النظام وعائلته وحاشيته. وهو ما ينفي عنها صفة الجيوش النظامية بالمعنى الكلاسيكي، فالأخيرة، بحسب عزمي بشارة في كتابه المهمّ "الجيش والسياسة.. إشكاليات نظرية ونماذج عربية"، تشير إلى "القوات المسلحة المنظمة في كتائب وفرق وفيالق أو غيرها من التشكيلات المدربة على الطاعة بموجب تراتبية واضحة في تسلسل الأوامر من الجندي وحتى قيادة الجيش، التي تقوم لغرض الدفاع عن دولة، وربما تتدخل أيضا للحفاظ على استقرارها الداخلي". وهو تعريف واضح ودقيق، يستبعد المليشيات المسلحة أو الجيوش الخاصة من نطاقه، ويدفع إلى التساؤل بشأن كيفية تصنيف الجيوش العربية، وهل هي جيوش نظامية أم مجرد مليشيات وفرق عسكرية تحركها دوافع أخرى، غير الحفاظ على الدولة وحماية أمنها؟
وإذا كانت الجيوش النظامية العربية قد لعبت دوراً مهماً في عملية بناء دولة ما بعد الاستقلال، أو هكذا ادّعى قادتها، فقد تحوّلت، في ثقافتها ومنظومة ولائها، خلال العقود الأخيرة، إلى ما يشبه الفرق الانكشارية التي كانت تحمي السلطان العثماني، وتعمل على إحكام سيطرته داخليا، ومد نفوذه خارجياً. وللمفارقة، كانت هذه الفرق الانكشارية تمثل عند ظهورها، بحسب بشارة، "الجيش النظامي الأول في التاريخ"، وذلك تمييزاً لها عن "جيوش الغزاة والفاتحين السابقين" وعن نظام "السباهية" أو "الإقطاع العسكري" العثماني.
خذ مثلاً السودان، فمنذ آخر استيلاء للجيش على السلطة في انقلاب 1989، قام الجنرال عمر البشير بعملية إعادة هيكلة للمؤسسة العسكرية، ليس فقط على مستوى البنية، وإنما أيضا الولاء. ففضلاً عن إنشائه عدة فرق ومليشيات عسكرية من خارج بنية الجيش النظامي، مثل فرق الجنجاويد (سُميت لاحقاً بقوات الدعم السريع) التي أنشأها ويقودها الفريق حميدتي، ولعبت دوراً مهماً في إخماد التمرد في إقليم دارفور. وكذلك قوات الدفاع الشعبي التي تم تشكيلها من مواطنين سودانيين بعد انقلاب البشير، وتحولت بعد ذلك إلى قوات احتياط تابعة للجيش السوداني. وخذ أيضا ما فعله حافظ الأسد، ومن بعده ابنه بشار، بالجيش السوري الذي تحول إلى جيش طائفي بالمعنى السياسي، وليس فقط المذهبي، يقوم على حماية عائلة الأسد وحاشيته وأقاربه. ناهيك بالمليشيات المختلفة التي تساعد النظام، منذ بداية الانتفاضة الشعبية ضده. وهو لا يختلف كثيراً عما فعله الرئيس اليمني الراحل، علي عبد الله صالح، بالجيش اليمني الذي تحول، خلال العقود الثلاثة الماضية، إلى ما يشبه المليشيات القبلية والعائلية والطائفية التي كان يقودها صالح وأولاده وأقاربه.
في بعض هذه الحالات، أصبحت المليشيات والفرق المسلحة أقوى من الجيوش النظامية، وأقوى من الدولة، ومن نظامها السياسي، فتحولت إلى "انكشارية" جديدة، تسعى إلى فرض سيطرتها على الدولة والنظام والمجتمع. ويتمتع قادة هذه الانكشارية الجديدة بمصالح مادية، ومزايا اجتماعية، كما لو كانت طبقةً إقطاعيةً تمتلك الأرض ومن عليها.