05 يونيو 2017
انهيار الاتحاد الأوروبي
لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، عبر الاستفتاء الشعبي، تداعياتٌ عديدة. اقتصادياً، تتأثر الأسواق المالية البريطانية والعالمية بشكل سلبي وفوري، فيما يقول وزير المالية البريطاني إن الخروج من الاتحاد الأوروبي يمكن أن ينجم عنه رفع الضرائب على البريطانيين، وخفض النفقات. سياسياً، الاتحاد الأوروبي مهدّد بالتفكك، إذ يشجع الخروج البريطاني أحزاب اليمين الرافضة للرابطة الأوروبية، في دول عديدة، للدفع نحو الانسحاب من الاتحاد، والتحشيد ضده، خصوصاً مع صعود هذه الأحزاب في دولٍ، مثل فرنسا والنمسا وهولندا والمجر. أيضاً من النتائج المتوقعة للانسحاب البريطاني ارتفاع أصوات المطالبة باستقلال اسكتلندا عن بريطانيا مرةً أخرى، بعد الفشل في تحقيق الانفصال في استفتاء عام 2014، وكذلك سترتفع الأصوات الانفصالية في إيرلندا الشمالية، لتحيي المطالب القديمة بالانفصال عن بريطانيا.
واحدةٌ من أهم النتائج لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتصدّعه المنذر بانهياره، التأكيد أن التبشير الذي سمعناه طوال عقدين بالعولمة، والهوية الكونية، ونهاية عصر القوميات والدول القومية، مبالغة في غير محلها. لم تنتهِ الدولة القومية الحديثة باعتبارها الشكل الأساسي للتنظيم الاجتماعي السياسي في عالمنا. وعليه، لم ينتهِ مفهوم السيادة، وإن تعرّض لتقلُّص، نتيجةَ تأثيرات العولمة.
لم تُنهِ المعاهدات الدولية سيادة الدول، وظلت إمكانية التحفظ على بعض بنودها، أو رفض توقيعها من الأساس، بحجة المصلحة القومية، قائمة. ولم تدمر الشركات العابرة للقارات مفهوم السيادة، وإنْ ساهمت في تقليصه، لأن أغلب هذه الشركات ذات قاعدةٍ قومية، وتنطلق من موقعٍ قوميٍ أساسيٍّ من الأصول والإنتاج والبيوعات، كما يوضح وجيه كوثراني، كذلك، فإن للدولة دور أساسي في توجيه الاقتصاد المعولم وضبطه، والتحكّم بالحركة التجارية من الدولة وإليها، ووضع ضوابط صارمة في تدفق السلع والبضائع، لحماية الصناعات المحلية. ينطبق الأمر نفسه على المنظمات الحقوقية العالمية، وحتى على شركات الإنترنت التي يمكن للدول تعطيل زحفها، بل والحصول على معلوماتٍ من خوادمها، أو حتى استخدامها في عمليات التجسّس لمصلحة "الأمن القومي".
لا ينفي هذا كله تأثيرات هذه العوامل على سيادة الدول، غير أن أنصار العولمة بالغوا في تضخيم شأنها، كما بالغوا في التعويل على قيام روابط فوق-قومية، مثل الاتحاد الأوروبي، تقلص سيادة الدول لمصلحة الحركة الحرة للسلع والبشر، وتساعد في توسيع مكاسب الشركات العابرة للقارات، وتسهيل عبورها إلى أسواقٍ جديدة، في عصرٍ تسود فيه الرأسمالية المعولمة، من دون منافس أيديولوجي أو بديلٍ جدي.
جاءت الضربة لتوجهات العولمة ومكاسب الشركات، من مواطني الدول المستفيدة من عولمة الأسواق والتجارة الحرة، على شكل صعودٍ للهويات القومية المغلقة، البارزة في خطاب اليمين المتطرف، فقطاعاتٌ واسعةٌ من المواطنين في هذه الدول تضرّرت، كما تضرّر مواطنو دول العالم الثالث من الرأسمالية الجشعة التي صدّرت الوظائف إلى الخارج، بغية مراكمة أرباحٍ أكثر، عن طريق استخدام اليد العاملة الرخيصة في شرق آسيا.
في أوروبا، تتمظهر آثار الأزمة الاقتصادية التي أنتجتها السياسات الرأسمالية النيوليبرالية، على شكل كراهيةٍ متزايدة للأجانب، وصعود لأحزاب اليمين، المنادية بإغلاق الحدود القومية، بالضد من الحركة الحرة للبضائع والبشر. تغذّى طموح الانفصال عن الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، بشكل أساسي، على رفض الهجرات القادمة من شرق أوروبا، والتسهيلات المعطاة للأوروبيين الشرقيين لدخول بريطانيا بسبب الالتزام البريطاني بقوانين الاتحاد الأوروبي، وقد تمازجت العوامل الثقافية والقومية والأزمات الاقتصادية، لتنتج رفضاً لفتح الحدود، في إطار وطنية شوفينية، تتميز برهاب الأجانب.
خطاب اليمين المتطرف الذي يقود الحملة ضد الاتحاد الأوروبي يواجه المؤسسة الحاكمة وأنصارها، أي أنه يواجه السياسيين ووسائل الإعلام والشركات الكبرى، وقد حاولت كل هذه الأطراف في بريطانيا ثني المصوتين عن التصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حفظاً لمصالحها، لكنها هزمت أمام وطنيةٍ منغلقة، تستمد قوتها من الأزمة الاقتصادية، والشعور بالغبن بسبب الأوضاع المعيشية، والنقمة على السياسيين وأصحاب رؤوس الأموال. غير أن هذه النقمة تصب في الاتجاه الخاطئ، أي لصالح أحزاب اليمين المتطرف، وهي أحزابٌ تستفيد من الشعارات الشعبوية في ظل الأزمة الاقتصادية، لكنها تعاني من مشكلتين أساسيتين: تتمثل الأولى بخطابها الذي يعتمد وطنية شوفينية، لا تتوقف على كراهية الأجانب وعداء المهاجرين، وإنما تتعدّاهما لصناعة أزمات هويةٍ داخل الدول الأوروبية، بالعداء للأقليات، وإحداثِ صراعاتٍ داخل مجتمعات تلك الدول. أما المشكلة الثانية، فهي أن طرح اليمين المتطرف لا يتوجّه إلى الأسباب الحقيقية التي صنعت الأزمة الاقتصادية، أي السياسات النيوليبرالية المتوحشّة، ويذهب نحو تحميل المهاجرين المسؤولية، على الرغم من أن كثيراً منهم يمثل حاجة للاقتصاد في هذه الدول، خصوصاً في مجتمعاتٍ مثل بريطانيا وألمانيا، تعاني من نقص العنصر الشاب. هذا لا يُمَكِّن اليمين المتطرف من تقديم البديل للمؤسسة الحاكمة، وهو يعيش على ردّة الفعل والتهييج الشعبوي، من دون برنامج عملٍ بديلٍ يمكنه التعاطي مع الأزمة.
هنا تغيب الأحزاب اليسارية الراديكالية عن دورٍ مفترضٍ في إنشاء بديلٍ للسياسات النيوليبرالية، وإنقاذ الجمهور من اليمين المتطرّف الذي يبدو، في هذه المرحلة، القوة الأبرز لمقاومة العولمة في أوروبا، ضد اليمين التقليدي والشركات الكبرى التي ستصارع لأجل الحفاظ على مكاسبها عبر التجارة الحرة.
واحدةٌ من أهم النتائج لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتصدّعه المنذر بانهياره، التأكيد أن التبشير الذي سمعناه طوال عقدين بالعولمة، والهوية الكونية، ونهاية عصر القوميات والدول القومية، مبالغة في غير محلها. لم تنتهِ الدولة القومية الحديثة باعتبارها الشكل الأساسي للتنظيم الاجتماعي السياسي في عالمنا. وعليه، لم ينتهِ مفهوم السيادة، وإن تعرّض لتقلُّص، نتيجةَ تأثيرات العولمة.
لم تُنهِ المعاهدات الدولية سيادة الدول، وظلت إمكانية التحفظ على بعض بنودها، أو رفض توقيعها من الأساس، بحجة المصلحة القومية، قائمة. ولم تدمر الشركات العابرة للقارات مفهوم السيادة، وإنْ ساهمت في تقليصه، لأن أغلب هذه الشركات ذات قاعدةٍ قومية، وتنطلق من موقعٍ قوميٍ أساسيٍّ من الأصول والإنتاج والبيوعات، كما يوضح وجيه كوثراني، كذلك، فإن للدولة دور أساسي في توجيه الاقتصاد المعولم وضبطه، والتحكّم بالحركة التجارية من الدولة وإليها، ووضع ضوابط صارمة في تدفق السلع والبضائع، لحماية الصناعات المحلية. ينطبق الأمر نفسه على المنظمات الحقوقية العالمية، وحتى على شركات الإنترنت التي يمكن للدول تعطيل زحفها، بل والحصول على معلوماتٍ من خوادمها، أو حتى استخدامها في عمليات التجسّس لمصلحة "الأمن القومي".
لا ينفي هذا كله تأثيرات هذه العوامل على سيادة الدول، غير أن أنصار العولمة بالغوا في تضخيم شأنها، كما بالغوا في التعويل على قيام روابط فوق-قومية، مثل الاتحاد الأوروبي، تقلص سيادة الدول لمصلحة الحركة الحرة للسلع والبشر، وتساعد في توسيع مكاسب الشركات العابرة للقارات، وتسهيل عبورها إلى أسواقٍ جديدة، في عصرٍ تسود فيه الرأسمالية المعولمة، من دون منافس أيديولوجي أو بديلٍ جدي.
جاءت الضربة لتوجهات العولمة ومكاسب الشركات، من مواطني الدول المستفيدة من عولمة الأسواق والتجارة الحرة، على شكل صعودٍ للهويات القومية المغلقة، البارزة في خطاب اليمين المتطرف، فقطاعاتٌ واسعةٌ من المواطنين في هذه الدول تضرّرت، كما تضرّر مواطنو دول العالم الثالث من الرأسمالية الجشعة التي صدّرت الوظائف إلى الخارج، بغية مراكمة أرباحٍ أكثر، عن طريق استخدام اليد العاملة الرخيصة في شرق آسيا.
في أوروبا، تتمظهر آثار الأزمة الاقتصادية التي أنتجتها السياسات الرأسمالية النيوليبرالية، على شكل كراهيةٍ متزايدة للأجانب، وصعود لأحزاب اليمين، المنادية بإغلاق الحدود القومية، بالضد من الحركة الحرة للبضائع والبشر. تغذّى طموح الانفصال عن الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، بشكل أساسي، على رفض الهجرات القادمة من شرق أوروبا، والتسهيلات المعطاة للأوروبيين الشرقيين لدخول بريطانيا بسبب الالتزام البريطاني بقوانين الاتحاد الأوروبي، وقد تمازجت العوامل الثقافية والقومية والأزمات الاقتصادية، لتنتج رفضاً لفتح الحدود، في إطار وطنية شوفينية، تتميز برهاب الأجانب.
خطاب اليمين المتطرف الذي يقود الحملة ضد الاتحاد الأوروبي يواجه المؤسسة الحاكمة وأنصارها، أي أنه يواجه السياسيين ووسائل الإعلام والشركات الكبرى، وقد حاولت كل هذه الأطراف في بريطانيا ثني المصوتين عن التصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حفظاً لمصالحها، لكنها هزمت أمام وطنيةٍ منغلقة، تستمد قوتها من الأزمة الاقتصادية، والشعور بالغبن بسبب الأوضاع المعيشية، والنقمة على السياسيين وأصحاب رؤوس الأموال. غير أن هذه النقمة تصب في الاتجاه الخاطئ، أي لصالح أحزاب اليمين المتطرف، وهي أحزابٌ تستفيد من الشعارات الشعبوية في ظل الأزمة الاقتصادية، لكنها تعاني من مشكلتين أساسيتين: تتمثل الأولى بخطابها الذي يعتمد وطنية شوفينية، لا تتوقف على كراهية الأجانب وعداء المهاجرين، وإنما تتعدّاهما لصناعة أزمات هويةٍ داخل الدول الأوروبية، بالعداء للأقليات، وإحداثِ صراعاتٍ داخل مجتمعات تلك الدول. أما المشكلة الثانية، فهي أن طرح اليمين المتطرف لا يتوجّه إلى الأسباب الحقيقية التي صنعت الأزمة الاقتصادية، أي السياسات النيوليبرالية المتوحشّة، ويذهب نحو تحميل المهاجرين المسؤولية، على الرغم من أن كثيراً منهم يمثل حاجة للاقتصاد في هذه الدول، خصوصاً في مجتمعاتٍ مثل بريطانيا وألمانيا، تعاني من نقص العنصر الشاب. هذا لا يُمَكِّن اليمين المتطرف من تقديم البديل للمؤسسة الحاكمة، وهو يعيش على ردّة الفعل والتهييج الشعبوي، من دون برنامج عملٍ بديلٍ يمكنه التعاطي مع الأزمة.
هنا تغيب الأحزاب اليسارية الراديكالية عن دورٍ مفترضٍ في إنشاء بديلٍ للسياسات النيوليبرالية، وإنقاذ الجمهور من اليمين المتطرّف الذي يبدو، في هذه المرحلة، القوة الأبرز لمقاومة العولمة في أوروبا، ضد اليمين التقليدي والشركات الكبرى التي ستصارع لأجل الحفاظ على مكاسبها عبر التجارة الحرة.