تعقد مدينة سارانسك التي عاش فيها الفيلسوف والناقد الأدبي والسيميائي الروسي ميخائيل باختين (1859-1975) مؤتمراً سنوياً يجري فيه نقاش مسائل حضارية وثقافية من منظور الـ "باختينولوجيا".
تعتبر كتابات باختين الفلسفية مصدراً أساسياً تأسّست عليه المدارس البنيوية وما بعد البنيوية والتفكيكية، من هنا تأتي أهمية تقديمه بالعربية، وترجمة كتاب "النظرية الجمالية - المؤلف والبطل في الفعل الجمالي" الذي صدر مؤخراً عن دار "نينوى" بترجمة عقبة زيدان.
يرى زيدان أن "انقسام الذات وتبدّدها وانتشارها في اللغة، هي إنتاج باختيني، وله السبق في الحديث عن وجوب الاهتمام بالمتكلّم والشروط التي ينتج فيها المدلول. فهناك أفكار كبيرة ضمن أعمال باختين، اعتمد عليها علماء اللغة والعلوم الإنسانية والاجتماعية وكذلك النقّاد. إنه يكتب بعمق نادر، ويحمّل أفكاره زخماً جديداً، ويقتحم مناطق لم ينتبه أحد إلى وجودها. إنه يحاكي الأشياء ويقيم معها حواراً فاعلاً، فيصل إلى نتيجة مبهرة بسبب هذا الحوار".
يتضمّن الكتاب خمسة فصول، يأتي الأول تحت عنوان "مشكلة علاقة المؤلف بالبطل"، والثاني "الشكل المكاني للبطل" ثم "كل البطل الزماني"، و"كل البطل الدلالي"، وأخيراً "مشكلة المؤلف".
يقول المترجم في مقدمة العمل إن باختين "لا يعرِّف نظرية الفعل الجمالي، وهو يستخدم الفعل بمعنى نشاط هو الآخر، ولكن كلمة نشاط الروسية تعني بأحد معانيها القاموسية الفعل".
ورغم أن باختين قد كتب هذا العمل في النصف الأول من عشرينات القرن المنصرم، إلاّ أن هذا العمل ما يزال مليئاً بالحداثة والجدّة، وفقاً للمترجم. يرى باختين أن "على المؤلف أن يتواجد على حدود البطل المكانية والزمانية والدلالية، وألّا يتطابق معه، وكلما حافظ المؤلّف على هذه المعادلة، ارتفعت سوية العمل الإبداعية الفنية، وزادت القيمة الفنية أيضاً: وهذا يتطلّب الحفاظ على الحياد الزماني والمكاني والدلالي، وأن يدرك المؤلّف دوماً أنه خارج لعبة البطل، وليس داخلها، رغم أنه هو الذي يصنعه ويبدعه. وكلما تداخل المؤلف مع البطل، تشكّلت دلالة جديدة في العمل الفني".
يشرح زيدان في مقدّمته الموسّعة أسس التفكير الجمالي لدى أحد أهم النقاد الأدبيين المؤثّرين في تاريخ الأدب، فيحاور مفاهيم البطل والمؤلف والقول والفعل وكذلك التلقّي وآلياته لدى باختين.
يقول زيدان "يتواجد مؤلّف العمل في كلّ العمل، وهو غير موجود بجانب واحد منه، وهو أقلّ ما يمكن أن يكون في المضمون المنفصل عن الكل، لأنه لن يكون بارزاً في ذلك المكان، حيث يتداخل المضمون بالشكل على نحو دقيق، يتمازج معه، وأكثر ما نحسّ بوجود المؤلف في الجانب الشكلي، لكن علم الأدب يبحث عنه عادة في المضمون المأخوذ كجزء من الكل".
ويوضّح "يمكن أن يصبح المؤلف الحقيقي مع ذلك مجرّد صورة، لأنه هو خالق الصورة، خالق أية صورة وكذلك كلّ ما هو صوري في العمل، لذلك فإن ما يسمّى بصوت المؤلّف يمكن أن يكون فقط إحدى صور العمل المعطى. لكن هذه الصورة من نوع خاص جداً، حيث يُدخل الفنان ذاته في اللوحة من طرفها، يرسم صورته الذاتية، لكننا لا نرى فيها المؤلف كما هو، ولا تُمكن رؤيته، وليس أكثر منه في عمله، فهو أكثر ما يتجلّى في أفضل اللوحات لهذا المؤلف - الفنان، والمؤلف الخالق لا يمكن أن يكون مخلوقاً في ذلك الجمال الذي يخلقه هو نفسه، لأنه من طبيعة خالقة وليس من طبيعة مخلوقه، ونحن نرى المبدع في إبداعه فقط وليس خارجه بأي حال من الأحوال".
بالنسبة إلى باختين، كما يفسّر زيدان "لا توجد كلمة أولى ولا أخيرة، لا توجد حدود للسياقات الحواراتية مع العمل الإبداعي، فهو يذهب بعيداً في الماضي السحيق بلا حدود، وفي المستقبل السحيق وبلا حدود أيضاً، حتى إن الدلالات الماضية المتشكّلة في حوار القرون السابقة لا يمكن أن تكون ثابتة ومستقرّة، منتهية ومكتملة دائماً وإلى الأبد؛ فهي متغيّرة دائماً ومتجدّدة في عملية التطور المستقبلي المتتالية والمنطقي للحوار، ففي أية لحظة من تطوّر الحوار توجد كميات هائلة لا تعدّ ولا تحصى من الدلالات المنسية، لكن يمكن أن يتمّ تذكّرها في لحظات جديدة، كما أنه لا يوجد شيء ميت بشكل مطلق وسيكون لكل دلالة عيد بعثها، وهذه مشكلة ومسألة متعلّقة بمسألة الزمان الكبير".