برايتون برس

03 فبراير 2015
+ الخط -
استخدم السومريون القصب في الكتابة على رقُم الصلصال، وكان لقوالبها أشكال بيوض أو مواشير أو براثن حيوان. كتب الفراعنة على ورق البردي ولفّوه بالكتان وأودعوه جرار فخار وختموها. كانت الكتب الصينية تُطوى مثل مروحة أو أوكورديون. كُتبت المخطوطات القروسطية بأحبارٍ لا تتأكسد ولا تثقب الورق، ورُصّعت بذهب مطروق أرقّ من جناح فراشة؛ الأحبار الرديئة أتلفت عدداً من مخطوطات موسيقى باخ، بينما حمت فخامة الأوراق والمداد الملكي معظم ألحان موتسارت. 
إذا قارنا الكتب في عالم اليوم بشبيهاتها في العصور الماضية، لوجدناها رمادية تخلو من الحياة. إنها أكداس من الورق المستطيل موحد الشكل والقياس، تُطبع ميكانيكياً وتُجلّد بأغلفةٍ من الورق المقوّى الرخيص، فهي مصممة لتناسب رفوف المكتبات ومعاييرها أولاً، ولا تضع في الاعتبار رغبات المؤلف. قياساً إلى ملايين الكتب التي تضخها إلى أسواق العالم دور النشر الكبرى تبدو الكتب فنية التصميم لدى دار نشر برايتون برس فناً قائماً بذاته. تأسست الدار عام 1985 في سان دييغو بكاليفورنيا. أسسها بيل كيلي، وتديرها حالياً ميشيل بورغيس، ويتعاون على إنجاز أعمالها شعراء ورسامون وفنانون في حقول الطباعة اليدوية والحفر وتجليد الكتب وتصميم الأغلفة وصناعة الورق. تصنع الدار نسخاً محدودة من كل كتاب مرقَّمة وموقَّعة، وأحياناً نسخة واحدة فقط، وبعض أعمالها مقتناة في متحف الفن الحديث في نيويورك، إضافة إلى متاحف ومكتبات وجامعات أميركية أخرى. 
قارن مالارميه تنضيد الكلمات في قصيدة بالسلم الموسيقي، لأننا نسمعها حين نقرؤها. وكما تتحول الكلمات إلى أصوات، فإنها تتحول إلى صور أيضاً والصور إلى أحاسيس؛ ولأن برايتون برس تصبو إلى فن حسي تنخرط فيه اليد والعين والذهن بالحماسة والتوقد إياهما، فقد فتحت منذ البداية الطرق أمام مكونات الكتاب كي تتحول وتتقاسم الأدوار: الكلمة والصورة تعكسان بعضهما بعضاً وتتصاديان وتتخطيان الحدود بينهما، الوهمية كأية حدود أخرى. من صفحة إلى أخرى، تتداخل عناصر الكتاب ذهاباً وإياباً، موسيقياً وبصرياً. تقول الناقدة ليا أولمان إن برايتون برس تقترح التالي: إن أي كتاب، في الصميم، مصبّ علاقات بين النص والصورة، الخط والصفحة، الشكل والدور، الكاتب/الفنان والقارئ، المكان والزمان، الشعر والموسيقى، الطباعة والشغف. تبدأ صناعة الكتاب وفي ذهن صانعه لمسة الإنسان، لأن هذا العمل الفني لا يكتمل إلا بين يدي القارئ الذي يمكننا اعتباره مشاهداً وشريكاً يكمل كل عمل بطقس القراءة، حين يفتح الكتاب ويقلبه ويتصفحه ويتأمّله. ملامسة الأوراق ستنقل إلى القارئ شغف صانعي الكتاب المختلفين. 
تبقى كتب برايتون برس صعبة التصنيف، ولكنها تسمي نفسها فروعاً وأغصاناً متمردة صعدت (ولم تنحدر) من شجرة العائلة التي زرعها الروائي وليام موريس في لندن عام 1890 عندما أنشأ دار نشر كلمسكوت برس للكتب ذات الطبعات المحدودة، وكرّس لها أعوامه الأخيرة. في مسعاه إلى استرداد كرامة تلك المهنة في عصر استولى عليه ابتذال الإنتاج والاستهتار بمواهب الأصابع، كتب موريس: "بدأت بالطباعة، آملاً بإخراج بضعة كتب تشدها إلى الجمال آصرة وثيقة". بعد قرن من وفاة موريس، كتب الروائي النمساوي و. ج. سيبالد في المدينة نفسها: "زرت اليوم ناشراً لندنياً مقيماً في كينسينغتون. كان لا يزال منشغلاً عند وصولي، فأرشدتني زوجته إلى غرفة كانت مكتبة في الطابق العلوي من منزل فسيح عديد الطوابق. كانت الغرفة ملأى بالكتب وثمة كرسي واحد، والغبار في كل مكان، وقد تراكم بمرور السنين على كل تلك الكتب، على السجادة، على حافة النافذة، وفيه درب صغير يشبه درباً في الثلج رسمته الخطوات من الباب إلى الكرسي حيث يمكنك الجلوس لتقرأ. ما أمضيتُ وقتاً بمثل تلك السكينة في حياتي قط، جلست ربع ساعة فحسب على ذاك الكرسي. يا للسلام العميق في نوم الغبار". 
روى سيبالد هذه الذكرى الحميمة، ولم يخطر له أن دار نشر ستتوقف ملياً عند هذه النقطة: حميمية الكتاب.


المساهمون